نهبط في "الأوذيسة" (القرن الثامن قبل الميلاد) الى مملكة الأموات. نهبط مرتين. مرة أولى في الكتاب الحادي عشر. ومرة أخرى في الكتاب الأخير الرابع والعشرين. في المرة الأولى ينزل اوديسيوس (الاسم اللاتيني عوليس) الى "تحت" ليعرف ماذا سيجري له في المستقبل وكيف سيصل الى بيته وجزيرته وأهله. في المرة الثانية ننزل بلا عوليس, ننزل مع الرجال الذين قتلهم عوليس في قاعة قصره بعد أن بلغ جزيرته أخيراً. هذه الزيارة الثانية مقتضبة. لكنها تحفل بالصور الشعرية - الروائية. نرى المحاربين الإغريق الذين سقطوا تحت أسوار طروادة, يتحلقون حول قائدهم أغاممنون, يستقبلون الرفاق الذين قُطعت رقابهم للتو. صور القتل العنيف هذه لن تنتهي في ملحمة هوميروس. بعد سبعة قرون يرجع فيرجــيل اليــها وهــو يكــتب "الإنيــاذة".
كأن فيرجيل يترجم "الإلياذة" و"الأوذيسة" معاً من اليونانية الى اللاتينية. في الكتاب السادس من "الإنياذة" يهبط انياذ الى مملكة الأموات ليسأل عن مستقبله. تحت لا يلتقي أباه وأسلافه فقط: يلتقي أيضاً أولاده وأحفاده. يأخذ فيرجيل عن السلف ثم يحول ما يأخذه الى نص جديد. يفعل هذا في القرن الأول قبل الميلاد. وليتأكد من جغرافيا جزر إيجه يسافر من روما الى هناك فتضربه الشمس في سفينة على ظهر البحر. يموت فيرجيل كواحد من أشخاص قصيدته بضربة شمس وملحمته لم تكتمل تماماً بعد. صحيح انه كتب السطور الأخيرة وجعل انياذ الناجي من طروادة المحروقة يقتل عدوه طورنوس ويمهد الطريق أمام بناء رومــا, يقتله كما قتل آخيل هكتور... وصحيح ان فيرجيل, على فراش الموت, فكر انه - الى حدٍ ما - أنجــز خطة الملحــمة. لكنه تردد أيضاً. بعض الأبيات لم يكتمل بعد. وهناك عبارات ناقصة. وهناك سطور لا تعجبه. أكثر من هذا: قبل أن يلفــظ الأنفاس الأخيرة طلب من تلامذته ورفاقه إحراق ما كتب: إحراق المــلحمة.
كما سيحدث مع كافكا في المستقبل البعيد الغامض (في القرن العشرين بعد الميلاد) لم يحترم أحد وصية فيرجيل. لم تُحرق الإنياذة. وجرى نسخها. ثم تحولت الى النص المؤسس للأدب الروماني.
بعد قرون طويلة نرى دانتي يسير على خطى فيرجــيل. من جديد ها نحن ننزل الى مملكة الأموات. دانتي يأخذ فيرجيل دليلاً. ويلــتقي "تحت", بعد فيرجيل, هوميروس. هل يُترجم دانتي فيرجيل الذي ترجم هوميروس؟
العصور الوسطى تقتل دانتي بالملاريا. بينما يعبر مستنقعات ايطاليا عائداً الى بيته تحط بعوضة على ذراعه. بعقصة برغشة يموت الرجل الذي وصف كل تلك المشاهد الفظيعة في الجزء الأول من "الكوميديا". بعد سبعة قرون على "الجحيم", تجتاح الحرب العالمية الأولى الأرض. عقب هذه الحرب يكتب إليوت "الأرض اليباب".
وفي قصيدته الانكليزية يمرر أبياتاً كاملة من "جحيم" دانتي. هل يترجم إليوت دانتي؟ ليس إليوت شاعراً عادياً. انه يعترف مرة تلو أخرى بدينه للأسلاف. ليـــس دانتـــي فقط. ولكن فيرجـــيل أيضاً. صاحب "الإنياذة" يحـــضر في قصائد إليوت جميعاً. ما نقرأه يتـــحــول جزءاً سرياً من شخصيتنا. والشخصـــية هي الأسلوب. إليوت كان يدرك هذا. التقليد (التراث) جوهر الأدب. لا نولد من عـــدم. ولا نمضـــي الى عـــدم.
كافكا لا ينزل في قصصه الى مملكة الموتى لكنه يتخيل حياة خلدٍ يحيا في جوف التراب. كافكا تقوده أحلامه وكوابيسه, مثل إليوت, مثل دانتي, مثل فيرجيل, مثل هوميروس. لكن كافكا ابن العصور الحديثة الماكرة. هذا المكر يتكرر في أدب أعمى آخر (الأعمى الأول: هوميروس) اكتشف اسلوبه الشخصي في السرد بينما الحرب العالمية الثانية تُدمر مدن أوروبا وآسيا.
بعيداً وراء الأطلسي كتب خ. ل. بورخيس (1899 - 1986) قصصاً قصيرة تُترجم أدباً قديماً منسياً وغير منسي. لم تكن الظلمة زحفت على عينيه تماماً بعد. ولكن حتى بعد الظلمة سيظل بورخيس يكتب أدباً نادراً. سنة 1970 دوَّن في ثلاث صفحات قصة بيدرو سالفادوريس. رجل يحبس نفسه في قبو تحت بيته تسعة أعوام خوفاً من طاغية. هذا يحدث في بوينس أيرس القرن التاسع عشر. والقصة تتكرر في "أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي, وفي "الصرخة الصامتة" لكينزابوري أوي. الهندي - الانكليزي, والياباني, يُترجمان بورخيس. لكن بورخيس, مثل سلفه الاسباني سرفانتس, يخبرنا في إحدى ملاحظاته انه ليس أول من دوَّن قصة بيدرو سالفادوريس. يحيلنا بورخيس على كاتب ارجنتيني (أدواردو غوتيرز) سجل القصة أثناء القرن التاسع عشر. ويقول انه لم يقرأ القصة كما دوّنها سلفه. لكننا نعلم من ملاحظة أخرى لبورخيس, ومن سيرته الذاتية القصيرة, انه طـــالما قرأ - ومنذ الطفولة - أعمال الكاتب المـــذكور. هل يداعب بورخيس القارئ؟ هل يكـــون أول من دوّن القصة لكنه ينسبها وهـــماً الى كاتب سابق كما فعل سرفانتس؟ أم ان القصة قديمة فعلاً؟ رجل يحيا تحت الأرض... ليست هذه قصة جديدة. ألم يكتبها هوميروس؟ ألم يكتبها فيرجيل أيضاً؟ وقبل ذلك ألم تُكتب في مسرحية يونانية عنوانها "الضفادع"؟ صاحب "ذاكرة شكسبير" (1983) يعلم انها قديمة وجديدة معاً. كأن الأدب يُكرر الأدب. وفي كل مرة يغدو جديداً. ما السرّ؟ انتبه ستيفنسون وهو يكتب إحدى رواياته ان الدماء التي تجري في عروقه هي دماء أبيه. ودماء جده أيضاً.