ما سنفعله في هذا المقال هو القيام بالمشاهدة عن بعد من خلال التليسكوب الفكري، لمجموعة من التغيرات الكبرى التي سوف تجري في الشرق الأوسط خلال السنوات والعقود القادمة. وما نريده تحديدا جذب نظر القارئ إلى الأمواج العالية التي تتجمع في الأفق البعيد، نتيجة زلازل وبراكين تفجرت هزات وحمما في الآفاق العربية والشرق أوسطية، وإذا نجحنا في فهمها، فربما نفلح في توقيها، وربما حتى الاستفادة منها. وبالتأكيد، فإن بعضا من هذه الأمواج تجمع عاليا في أعقاب التغييرات في النظام الدولي في مطلع التسعينيات، ومع انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفيتي، والثورة التكنولوجية العظمى، وكثافة «عولمة» العالم; ولكن المؤكد أيضا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، قد أعطت جبال المياه مددا إضافيا من أسماك القرش المدججة بالأسنان الحادة، والرغبات العارمة والغضب الطاغي. وللحق فإن العالم العربي، وبقية أهل الشرق الأوسط، تكلم في الموضوع الذي يشاهده على مدى الأفق، ولكنه في النهاية توزع ما بين منكر، مدعيا أن الأفق صاف لا ينبئ عن عاصفة قادمة; وما بين مدرك لا يرى فيما يجري ما يستحق القلق; ومكذب أن المسألة كلها ما هي إلا صيحة الذئب الشهيرة، لترويج أفكار وترويع الثوابت الثابتة التي لا تهزها نائبة.
ولكن لا خير في الكاتب إذا لم يقل ما يراه، ولا خير في القراء إذا لم يسمعوه، وبعد ذلك فلكل حادث حديث، فما نحن بصدده ليس أحداثا يومية، بل انها تغيرات كبرى تجري تحت أعيننا، وبحكم قوانين الطبيعة، فإن زلزالا جرى بقوة 9.4 ريختر في نقطة في أعماق المحيط الهندي، قرب ساحل أتشيه في أندونيسيا، أصاب ومس بالضرر والدمار مساحة هائلة ممتدة من المحيط الهادي حتى القرن الأفريقي، وفي طريقه حرك جزرا وغمر دولا وقتل بشرا، بقدر ما تفعل حروب عظمى. وفي الثالث من أكتوبر القادم سوف تبدأ المفاوضات التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي; وبعد خمسة عشر عاما ـ إذا سارت الأمور على ما يرام ـ سوف تصبح عضوا كامل العضوية فيه; أما إذا لم تسر الأمور على ما يرام، فإن ذلك سوف يتأخر خمس سنوات أخرى. ولكن في كل الأحوال، حسنت الأمور أو ساءت، فإن أوروبا سوف تمتد حتى وسط آسيا، وتصبح في الجوار المباشر للعالم العربي، وعلى التماس مع إيران وفي التخوم مع آسيا الوسطى.
هذا التغير الاستراتيجي والجيوبولتيكي الهام، ليس حدثا عارضا، وليس امتدادا لحلم تركي طال، حول أن تكون تركيا جزءا من الغرب، وإنما هو إعادة تركيب لقلب العالم القديم، كما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية. وحتى نقرب الصورة، فقد كان انضمام تركيا إلى حلف الأطلنطي في السابق نقلا فوريا لكل المنطقة إلى قلب الحرب الباردة، والصراع الأمريكي السوفيتي، وعاش العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط حوله في قلب الأزمات العالمية، وخلالها حققوا الاستقلال ولكنهم فشلوا في فلسطين. ولكن هذه الحالة من «التغيير» في الجوار، لا تجري ضمن الأنساق القديمة القائمة في النهاية على «الدولة ـ القومية» ومشتقاتها من أحلاف وتجمعات; وإنما تجري وسط عالم يقوم على التفاعل والتواعد، عابر للقوميات والجماعات بالسلع والأفكار، والأسلحة والعنف!.
لقد أتت أوروبا لنا عبر البحار في فترات زمنية متباعدة في العصور الهيلينية والرومانية والصليبية والاستعمارية، ولكن البحر الذي حملها إلينا، كان هو ذاته الذي حملها بعيدا عنا، وهذه المرة فإن الجوار الجغرافي لن يكون جسرا وحاجزا في نفس الوقت; ولكنه سيكون نقطة مرور عبور، أو بوابة حاجزة مجهزة بالأسوار الشائكة وأبراج إطلاق النار.
لقد بدأت أوروبا تجهيزاتها للزمن القادم، وربما كان قبولها لبدء المفاوضات مع تركيا، نوعا من التحضير للحظة حتمية بحكم التطورات العالمية، والاختبار من الداخل لجوار قادم لا محالة. ولكن أوروبا التي لا تترك الكثير للصدف، بدأت ومن الآن، وقبل وصول الأمواج العالية، وتحولها إلى «تسانوميات» قاتلة ومدمرة، في تدبير ما أسمته «سياسة الجوار»، لكي تخطط لمستقبل العلاقات الأوروبية الشرق أوسطية. ولكن من ناحيتنا فإن التعامل مع الموضوع، لم يزد كثيرا عن تعاملنا مع ما مضى من تغيرات، بعض من الإنكار، وبعض من الإدراك المخل، وكثير من التكذيب الخطر.
ولكن الأمواج العالية ليست قادمة من خارج المنطقة فقط، وإنما قادمة من داخلها أيضا، وعندما يكون «التسانومي» خارجيا وداخليا، فإن تلاقي العواصف يخلق دومات وأعاصير هائلة التأثير. فما يجري في العراق، وما تم الاتفاق عليه في السودان، يقدم لأول مرة نموذجا جديدا للدولة العربية، يقوم على العلاقات الداخلية المركبة بين الحاكم والمحكوم، والحكومة المركزية والأقاليم، يضاف إلى ذلك اقتسام للسلطة والثروة. مثل هذا المفهوم يختلف كلية مع المفهوم المعروف للدولة العربية المعاصرة، القائمة على الطريقة الألمانية القائمة على الاندماج العضوي للجميع ـ مواطنين وسكان وطوائف ـ في مجال مجرد له قدسية خاصة. ومنذ مولد الدولة العربية الحديثة، وهي لا ترى كيانا سياسيا إلا الدولة، ولا ترى الدولة إلا أداة انصهار في الذات العليا لكل تابعيها، ومن ثم كان طبيعيا أن تتولد فيها فاشيات متنوعة، بعضها سلفي وبعضها قومي. وضمن هذا الإطار كانت الدولة اللبنانية مستهجنة للغاية، باعتبارها أمرا ناشزا حدث لاعتبارات تاريخية واستعمارية، لم يكن هناك مناص من التعامل معها. ولكن لبنان كان الاستثناء الذي يثبت القاعدة، بل انه الساحة التي عليها تتصارع «القواعد» الحقيقية في الشرق الأوسط.
كل ذلك في طريقه إلى التغيير الآن، وفي السودان ستكون هناك فيدرالية، ليس فقط بين الشمال والجنوب، وإنما لكل أقاليم السودان، وسوف يكون هناك رئيس من ناحية، ونائب للرئيس من ناحية أخرى، وسوف تكون هناك نسب وعلاقات في السلطة والثروة. وفي العراق، ومهما كانت نتائج الانتخابات القادمة، ومهما طال الصراع أو قصر، فسوف ينتهي المشهد العراقي على تركيب طائفي وإقليمي للسلطة. وسواء كان الحال هنا أو هناك، فإن الموجة العالية قادمة لبقية العالم العربي والشرق الأوسط ; فماذا نحن فاعلون ؟! .