عاد التوتر الأمني إلى جنوب لبنان من ثغرة مزارع شبعا. ويرجح ان يستمر التوتر نحو المزيد من التصعيد على خلفية المشهد الإقليمي الممتد من العراق إلى فلسطين. فالعراق "او الجزء الأكبر منه" يستعد للانتخابات وهي الأولى بعد احتلاله واسقاط نظام صدام. وفلسطين تستعد بدورها إلى صيغه جديدة من العلاقات بين السلطة والانتفاضة. فالرئيس المنتخب يتجه لتنفيذ وعده بشأن "توحيد البندقية" وما اسماه "عسكرة" الانتفاضة.
المشهد الإقليمي إذا غير مستقر وهو يتجه نحو المزيد من الاحتقان في وقت لا تتردد فيه الإدارة الأميركية من توضيح مشروعها المقبل في دائرة ما يسمى "الشرق الأوسط". فالرئيس الأميركي الذي دخل يومه الأول في ولايته الثانية أشار إلى عدم استبعاد الوسائل العسكرية ضد إيران في حال استمرت في تخصيب اليورانيوم. و"إسرائيل" توافقت سياسيا على تشكيل حكومة ثنائية تتألف من رأسين "شارون وبيريز". وهذا التوافق ليس بريئا. فشارون يقول إنه احتاج اليه لتغطية انسحابه من قطاع غزة ومنع المتطرفين من عزله أو منعه من تنفيذ وعده، بينما يمكن قراءة مسألة أخرى من هذا التوافق وهي ليست مستبعدة أو بعيدة عن أجواء التصعيد المتوقعة في المنطقة في الشهور المقبلة. فحكومة الرأسين ليست بالضرورة محاولة لتشكيل اجماع على الانسحاب "التراجع" وانما تحتمل فرضية أخرى وهي خطوة جديدة للتصعيد العسكري على أكثر من جبهة سياسية.
المشهد الإقليمي يجب النظر اليه من أكثر من زاوية لقراءة مختلف الاحتمالات وتجنب الوقوع في مصيدة تريد الولايات المتحدة جر المنطقة اليها لتبرير الهجوم الذي تخطط اليه واضطرت إلى تجميده لعدة شهور بسبب انشغال إداراتها بمعركة الانتخابات الرئاسية. الآن تفرغت الإدارة الأميركية وبدأت منذ اليوم الأول للولاية الثانية بتسريب معلومات "استخباراتية" للصحف عن وجود فرق تسللت إلى إيران للتفتيش عن "أسلحة دمار شامل" في المناطق التي تشك واشنطن بوجود مراكز انتاج فيها. كذلك هددت "إسرائيل" محمود عباس مشيرة إلى استعدادها لشن هجمات عسكرية تستهدف الأحياء المدينة في الأراضي المحتلة، للضغط عليه وتخويفه واستدراجه إلى مواجهة داخلية تخطط لها منذ حين. كذلك التصعيد الذي يشهده جنوب لبنان يأتي من ضمن حملة التسخين التي تديرها تل ابيب. فالأعمال العسكرية التي وقعت في الأسبوعين الأخيرين بدأتها "إسرائيل" سواء في الهجمات المستمرة على المناطق الفلسطينية في غزة أو في الاستفزازات الدائمة التي تقوم بها على حدود لبنان الدولية. فالهدف منها استدراج الآخر للرد حتى يكون المشهد المنقول إلى العالم على الصورة التي تريد "إسرائيل" تقديمها للولايات المتحدة.
هذه السلسلة من التوترات الأمنية ليست معزولة عن بعضها بل هي موصولة الحلقات من تلك الاخبار الملفقة عن إيران إلى ذاك الذي نراه يوميا في العراق وصولا إلى ما يحصل بتقطع في جنوب لبنان وقطاع غزة. فالسلسلة واحدة وهي مرتبطة في منطقها السياسي وتهدف في النهاية إلى إخراج الملفات الساخنة ووضعها على طاولة البحث في البيت الأبيض. والمشكلة في الملفات انه يصعب على الأطراف المعنية بها التعامل معها بحيادية. فالمسألة لا تحتمل الحياد في هذا المعنى لأنها تنطلق من نظرية القوي والضعيف واستعداد القوي إلى استخدام كل الوسائل لتمرير مشروعه في وقت يتهم الضعيف أو على الأقل يحمل الضعيف مسئولية التدهور أو التصعيد.
في قطاع غزة يعتبر الجانب الفلسطيني هو المظلوم والمعتدى عليه. وفي الجانب اللبناني تعتبر "إسرائيل" هي الطرف المعتدي الذي يرفض الانسحاب الشامل من الجنوب. وفي العراق يتحمل أهل الرافدين مسئولية أعمال لم يرتكبوها وكذلك يدفعون ثمن أزمة افتعلتها واشنطن وتبين كذبها لاحقا. وإيران أيضا تهدد يوميا في وقت تستغل أميركا وجودها العسكري في أفغانستان والعراق لابتزازها سياسيا.
كل هذه الملفات الأربعة "فلسطين، لبنان، العراق وإيران" من إنتاج الولايات المتحدة وهي تعمدت عدم معالجتها سياسيا لتدفع بها نحو المزيد من التوتر والاحتقان وربما الانفجار لتحقيق غايات كبيرة وغير شريفة تطاول منطقة "الشرق الأوسط" برمته.
التوتر الذي عاد إلى جنوب لبنان يجب النظر اليه من دائرة إقليمية "ودولية" لأنه لا يقوم على أساس معادلة القرار 425 ولا القرار 242 وانما ينطلق من صيغة دولية جديدة "ومفبركة" وهي القرار .1559