حاولت كثيرا أن أفهم المنطق الذي يستند إليه المعارضون لإجراء الانتخابات العراقية في موعدها الذى اصبح وشيكا.. فوجدت ان وراء موقف العراقيين منهم، مبررات يمكن تفهمها، وليس بالضرورة الموافقة عليها.. لكننى لم استطع ان اعثر على منطق مقبول لموقف العرب غير العراقيين الذين يستميتون في معارضة اجراء هذه الانتخابات.
صحيح ان مسألة الانتخابات هي مسألة عراقية بالأساس، وان المحك في الموقف منها هو رأي القوى السياسية والتنويهات الطائفية والعرقية العراقية، ولكن من الصحيح - كذلك - ان موقف دول الجوار العربية وغير العربية، والموقف العربى، الرسمى والشعبى، هى مواقف مؤثرة في الحالة العراقية، يمكن ان تساهم في حلها، بدعم جهود الشعب العراقى نحو التحرير والاستقرار، او ان تعرقل هذا الحل بالتدخلات الرسمية المباشرة والمعلنة، او بغيرها من التدخلات السرية وغير المعلنة، لاسباب ربما لا تكون بالضرورة مما يتطابق مع رؤية الشعب العراقى، او مصلحته.
وجوهر المسألة العراقية هو تحرير العراق من الاحتلال الاجنبى، واعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية، واقامة نظام سياسي ديمقراطي يعبر عن ارادة الشعب العراقى، ويتخذ سياسات تعبر عن رؤاه وتخدم مصالحه.
فيما هو معلن، فلا أحد من العراقيين، او من غيرهم، يختلف مع هدف تحريره من الاحتلال الاجنبى، او اعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية، لكن هناك - بالقطع - خلاف حول أسلوب هذا التحرير، وحول طبيعة النظام السياسى الذي ينبغى ان يقام فيه بعد التحرير.
فأغلبية العراقيين التى تضم الشيعة والاكراد، ترى ان تحرير العراق من الاحتلال الاجنبى، ينبغى ان يتم -في هذه المرحلة - عبر العملية السياسية كما وردت تفاصيلها في قرار مجلس الامن رقم1546 ، وبدأت مرحلتها الاولى بإنهاء مهمة الحاكم الامريكى للعراق، وتشكيل الحكومة الانتقالية الحالية، وتشكل انتخابات المجلس الوطنى الوشيكة مرحلتها الثانية.
ويستند هؤلاء الى منطق يرى ان مشكلة الاحتلال مرتبطة بمشكلة الاستقرار، وان تحطم جهاز الدولة القديم مع انهيار النظام السابق يتطلب تهيئة الفرصة لتشكيل جهاز دولة بديل يحل محله، عبر عملية سياسية رسم خطوطها العامة قرار مجلس الامن، سوف تنتهى ببناء مؤسسات منتخبة تمثل الشعب العراقى، تشمل دستورا وبرلمانا وحكومة وطنية تحوز ثقة هذا البرلمان، وآنذاك يصبح من حقها - طبقا للقرار الدولى - ان تطالب جيش الاحتلال بمغادرة العراق.
ذلك اسلوب في مواجهة الاحتلال لا يوافق عليه قسم من سنة العراق العرب، يرون ان الاندماج في العملية السياسية الجارية.. يمكن المحتلين من الاستقرار في البلاد وترسيخ اقدامهم فيها.. وبالتالي فإن الاسلوب الوحيد لمقاومة الاحتلال هو مواجهته بالقوة المسلحة، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية بقواته حتى يضطر لسحبها، فتعود السيادة للعراقيين فيقيموا النظام الذى يتفقون عليه فيما بينهم.
وينطلق هؤلاء من خلفية تتحدث عادة، عن ان عملية غزو العراق، هي جزء من المشروع الامبراطوري الامريكي، وان كل حديث عن جلاء القوات الامريكية عن العراق في نهاية العملية السياسية، هو تعلق بالاوهام، وتصديق للادعاء الذى يشيعه الامريكيون بانهم جاؤوا للعراق لإقامة نظام ديمقراطى فيه، وليس من اجل استغلال ثرواته واخضاع سياساته لخدمة المصالح الامبراطورية للإدارة الامريكية.
وعلى عكس اغلبية العراقيين، الذين اندمجوا في العملية السياسية منذ البداية ومن بينها اقسام واحزاب تنتمى الى السنة العرب واحتشدت حول تصور نظام سياسى عراقى يحل محل النظام السابق، يقوم على دستور ديمقراطى يعترف بالتنوع العرقى والدينى والمذهبى والسياسي للعراقيين، فإن المتشددين من السنة العرب الذين اعتمدوا اسلوب المقاومة المسلحة لايطرحون تصورهم للنظام السياسى الذى ينبغى ان يقام فيه بعد التحرير ليحل محل النظام الذى ظل يحكمه لمدة35 سنة، بينما يذهب الذين يناصرونهم من العرب غير العراقيين، الى القول إن المهم الآن، هو مقاومة الاحتلال، واجلاء قواته، وان الاتفاق حول هذا النظام، يمكن ان يتم عبر حوار بين العراقيين انفسهم، في اعقاب التحرير.
اما المهم فهو ان جانبا من هؤلاء الذين يعتمدون ويمارسون اسلوب المقاومة المسلحة يعلنون بوضوح انهم يسعون لإقامة نظام سياسى لدولة سنية تقوم على المقولات السياسية السائدة بين الفصائل السلفية المتشددة في الحركة الاسلامية، ومن أبرزهم الاتجاه الذى يأخذ به تنظيم القاعدة.
لسنا اذن امام خلاف بين الذين يريدون اجلاء الاحتلال والذين يريدون الابقاء عليه، او بين الذين يقاومونه والذين يرفضون مقاومته، ولكننا امام اغلبية ترى ان تكون المقاومة في هذه المرحلة سياسية، واقلية ترى ان تكون مقاومة مسلحة، واغلبية تهدف الى تأسيس نظام دستوري ديمقراطي لدولة مدنية تقوم على التعددية، واقلية تهدف الى تأسيس دولة دينية سلفية، او تسعى لإحياء النظام البعثى الذى انهار بسبب الاحتلال.
ذلك خلاف نخطئ فهم المشهد العراقى، لو اننا نظرنا اليه من زاوية ثنائية الاحتلال والمقاومة، او من زاوية ثنائية الدولة المدنية والدولة الدينية، من دون ان نضع في اعتبارنا ثنائية الشيعة والسنة، وثنائية العرب والاكراد.
فليست مصادفة خالية من الدلالة، ان الذين يقفون وراء خيار العملية السياسية اولا، هم من الشيعة والاكراد، والذين يقفون وراء خيار المقاومة المسلحة اولا، هم بعض اطياف السنة وعناصر من اجهزة النظام السابق، فتلك بعض الثمار المرة للحكم الديكتاتوري الذى جثم على انفاس العراقيين على امتداد35 سنة، وفرض عليهم نوعا من الوحدة القسرية التى لا تعترف بأي تنوع ديني أو مذهبي أو عرقى، فما كاد يسقط حتى رحب الجميع بسقوطه بصرف النظر عن انه حدث على يد غزاة اجانب، ونشطوا لكي يحولوا دون تكرار تجربته المرة، التى قامت على الانحياز للعرب ضد الاكراد الى الدرجة التى وصلت الى عمليات تهجير قسرى لتغيير الطبيعة الديموجرافية لمدينة مثل كركوك لتتحول من مدينة ذات اغلبية كردية الى مدينة ذات اغلبية عربية، لأسباب تتعلق بوجود النفط فيها، والانحياز للسنة ضد الشيعة الى الدرجة التى وصلت الى التهجير لآلاف من الشيعة العراقيين ذوى الاصول العراقية، فضلا عن التصفيات الجسدية الجماعية التى تعرض لها الطرفان.
ومن الخطأ ان يتجاهل أحد ممن يتابعون المشهد العراقى، او يبدون رأيا فيما يجرى في بلاد الرافدين، هذا الواقع الذى يقول ان اغلبية الشعب العراقى المتمثلة في الشيعة والاكراد والاطياف العرقية والدينية الاخرى مثل المسيحيين والتركمان، تساند العملية السياسية انطلاقا من قناعة راسخة لديها بان هذه العملية - التى تجرى طبقا لقرار مجلس الامن وفي ظل ضمانات دولية - هى وحدها التى تحول دون تكرار ما تعرضوا له من اضطهاد وتهميش.
ومن الخطأ كذلك ان يتجاهل احد هؤلاء، الوجه الآخر لهذا الواقع الذى يقول: إن السنة العرب سواء كانوا ممن يساندون خط العملية السياسية اولا، او خط المقاومة المسلحة اولا، لديهم مخاوف مشروعة من ان تنتهى هذه العملية، وخاصة الانتخابات الى سيطرة شيعية تستند الى الاغلبية العددية للشيعة، يضم نظاما شيعيا، تمارس في ظله الاغلبية ديكتاتوريتها ضد الاقلية، وقد تغرى كثرتها العددية، عناصر منها للقيام بحملات لتصفية حسابات الماضى، خاصة ان العراق، على الرغم من اغلبيته الشيعية، يخضع لحكم سنى منذ مئات السنين.
تلك بعض العقد التاريخية التى تحكم المشهد العراقى، مما لا يجوز لأحد معه ان يختصر الامر اختصارا مخلا، ومقصودا، في ثنائية الاحتلال والمقاومة، المسلحة، إذ ليس في العراق قوى تساند بقاء الاحتلال، ومن الخطأ في الرأي ان يصور احد الامر وكأنه اغلبية الشعب العراقي- ممثلة في الشيعة والاكراد - ترغب في بقاء الاحتلال، او تقبل المشاركة في انتخابات تعلم مسبقا ان المحتلين سوف يقومون بتزويرها.
وهذه العقد هى المسؤولة عن التصاعد خلال الشهور الاخيرة، في عمليات العنف العشوائية، التى يصفها الاعلام العربى، من دون تمييز بينها بانها عمليات مقاومة للاحتلال، فيقلل بذلك من حجم الاعتراض العراقى على بقاء الاحتلال، ويقصره على جزء من طائفة من العراقيين، ويعمينا عن رؤية الحقيقة التى تقول: ان اجراء انتخابات عامة حرة في العراق هى الوسيلة الوحيدة لمعرفة ماذا يريد الشعب العراقى، ولوجود مؤسسات ديمقراطية تستطيع ان تمثله، وان نطالب بحقوقه، وان الذين يمارسون عمليات العنف، التى لا تقتصر على قوات الاحتلال بل تشمل كذلك قوات الشرطة والجيش وانابيب البترول ومحطات الكهرباء، والمسؤولين الاداريين واساتذة الجامعات فضلا عن المدنيين، لا يسعون الى الواقع لضرب الاحتلال، بل للحيلولة دون إجراء الانتخابات.. اما لأن إجراءها - كما يتخوف المشاركون في هذه العمليات من انصار النظام السابق - سوف تفقدهم الى الابد، الامل في استرداد السلطة التى فقدوها، او لانها قد تنتهى الى اوضاع يجد السنة انفسهم فيها في الوضع الذى كان فيه الشيعة والاكراد في ظل النظام السابق.
وعلى عكس ما يعتقد البعض، فليس برفع شعار جلاء المحتلين قبل الانتخابات، يتحرر المشهد العراقى من عقده التاريخية، ولكن باجرائها في ظل توافق وطني يحول العراق إلى دولة وطنية فيدرالية ديمقراطية علمانية، متحررة من الاحتلال والديكتاتورية والمذهبية.