هناك نوعان من الأمّية في هذا العالم. الأمية التي تبعث على الرثاء، وهي تتمثل في أولئك المساكين الذين لم تتوافر لهم فرصة تعلم القراءة والكتابة. والأمية التي تبعث على السخط، وهي تتمثل في تلك الأنظمة السياسية وفي أولئك الحكام والمسؤولين الذين سمحوا ويسمحون بوجود أمية وأميين في بلادهم.
الأمية الأولى هنا قد تجد عذراً أو مسوغاً، لكن الأمية الثانية وهي الأدهى ليس لها ما يبررها على الاطلاق وخصوصاً في هذا العصر، إلا اذا كان الحكام في البلدان التي ما زالت تعج بالأميين يتكلون على جهل الناس للبقاء في مناصبهم وكراسيهم، ولهذا يتركون مواطنيهم في الأمية والجهل.
وعلى هذا الأساس، وقياساً بالتقرير الذي صدر عن المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة [اليسكو] التابعة لجامعة الدول العربية، فاننا الآن أمام فضيحة مدوية أين منها الشريط الفضائحي الذي قدمته أرقام تقرير التنمية العربية عن عام 2003.
لا بل اننا أمام فضيحة العصر، التي تستدعي في الواقع قلب هذه المنطقة العربية رأساً على عقب بحيث يتم جرف معظم الانظمة والحكام وتكنيس المسؤولين الذين سمحوا ويسمحون بأن تكون منطقتنا في آخر السلّم البشري من حيث العلم والتنمية والتقدم والمعرفة والاسهام في المسيرة الانسانية.
انها فضيحة أكبر من ان يتصورها العقل أو يصدقها الانسان في الألفية الثالثة. وصدق أو لا تصدق ان هناك 70 مليون أمّي عربي.
وماذا يعني هذا؟
انه يعني ان 35,6 في المئة، أي اكثر من ثلث سكان هذه المنطقة تقريباً، يضربون في العمى والجهل ولا يعرفون القراءة والكتابة.
المثير أكثر هو ما يكشفه التقرير من ان عدد الأميين العرب في عام 1970 كان 50 مليوناً ، أي 73 في المئة. ووجه الاثارة هنا انه منذ بداية السبعينيات، حين دخلت الثروة الى بعض دول المنطقة وخصوصاً عبر النفط والاستثمارات، الى اليوم توافرت للنظام السياسي العربي عموماً امكانيات هائلة وربما اسطورية [قياساً بالبذخ الهامشي والطائش] كان في وسعها فعلاً ان تساعد في محاربة الأمية بفعالية اكثر وأجدى.
واذا صحت أرقام تقرير "اليسكو" التي تقول انه قياساً بوتيرة التقدم الحالية وهي 1 في المئة، فان المنطقة تحتاج الى اكثر من ثلاثة عقود للقضاء على آفة الامية، فان من غير المستبعد ان لا يبقى في "جرم الارض المتهالك والميت" بعد هذه المدة غير العرب المقصرين، بينما يكون العالم قد صعد ربما ليستوطن الفضاء الخارجي !

***
إن الحديث عن وجود 70 مليون أمي في عالمنا العربي الآن غير صحيح على الاطلاق، فالرقم أكبر بكثير، لأن الأمية لا تقتصر كما قلنا على جهل القراءة والكتابة، بل انها تتمثل في وجهها الأدهى والأبشع بوجود دول وحكومات وأنظمة تقبل باستمرار وجود الأميين في بلادها.
وعلى هذا الأساس، من الضروري بالتأكيد اضافة مجموعة أخرى كبيرة الى هؤلاء المساكين السبعين مليوناً. يجب ان نضيف اعداد الأميين السياسيين والأميين في الوزارات والادارات ودوائر الدولة وفي الدواوين وفي البلاطات والحاشيات وارتال البطر والهامشية والعمى.
واذا اردنا ان نغوص اكثر في البحث عن الأمية في هذه المنطقة، فمن الضروري ان نتوقف ملياً أمام بلد مثل لبنان الذي لم نتوقف يوماً عن التبجح بالقول انه منارة، ولكننا ذبحناه من الوريد الى الوريد على امتداد نصف قرن تقريباً من سياسات الارتجال والتكاذب وهي من الأمية في المفهوم الوطني، ثم ذهبنا به الى الحرب الدموية العبثية وفيها أكدنا تفوقاً غير مسبوق في الأمية الشاملة والمجنونة تقريباً، وها نحن منذ "مسيرة السلم الأهلي" واتفاق الطائف نراوح في العجز والطاعة ولا نتوانى عن القول تارة إننا لم نبلغ بعد سن الرشد، وأخرى اننا "بلد ممسوك وليس متماسكاً" وهذا أيضاً من ضروب القعود عن محاربة الأمية في أخطر ما تمثل على مستوى الوطن كله لا على مستوى المواطن المسكين الذي لم تتح له الفرص معرفة الأبجدية.

***
ولا ندري اذا كانت الجامعة العربية، المسؤولة أساساً عن منظمة "اليسكو" التي وضعت هذا التقرير، قد اطلعت عن أرقامه الفاضحة والمهينة والتي تشكل بيانا اتهامياً بحق النظام السياسي العربي عموماً.
نسأل هذا، على الأقل، لأن الذين قرأوا خبر إنشاء البرلمان العربي سيقولون في سرهم:
قبل البرلمان السعيد افتحوا مدارس تعلم الأميين وعلّموا النواب الف باء المسؤولية لأنهم يتحملون في شكل أو آخر وزر هذا الواقع المعيب الذي أضاء عليه التقرير المذكور.