من أفضل التعليقات التي صدرت لوصف الأزمة التي انفجرت غداة فوز ابو مازن عندما أعلنت حكومة شارون وكردّ على عملية معبر كارني، قطع الاتصالات مع السلطة الفلسطينية الأمر الذي اعتبره دنيس روس اقل ضررا كخيار من الخيار الآخر الذي كان سيعني حسب روس، تحركا عسكريا ضد السلطة الفلسطينية رغم ان شارون أوعز من جديد بتكثيف العمليات العسكرية في غزة والعودة إلى سياسة الاغتيالات المستهدفة.
من أفضل التعليقات ما قاله الصحافي الاسرائيلي إسحاق لاور (هآرتس 17/1). قال لاور ان دور السلطة الفلسطينية حسب متطلبات السياسة الاسرائيلية منذ أوسلو هو التصرف "كمتعهد أمن"، في حين ان على اسرائيل القيام بالقليل جدا ودائما اقل كل الوقت باعتبار انها القوة وبالتالي فإنها تحدد الحقائق. هذا ما يفسر التصريحات المتكررة التي تحمل تهديدا بنهاية "فترة السماح" وحول ابو مازن الذي هو "عرفات الثاني" بثياب مدنية، وحول مطالب من الطرف الفلسطيني للحصول على شهادة إثبات حسن سلوك للتفاوض بعدها. انه المنطق الذي يقوم على التفوق الاخلاقي والتفوق في الحقوق ويرفض التساوي بين الطرفين في المطالب والحقوق. المشكلة ليست في هذا المنطق فحسب بل في وضع دولي لا يعارضه وآخر اميركي يؤيده ويعتبره بمثابة مسلمة أو حقيقة قائمة بذاتها يجب ان تحكم "لعبة" المفاوضات. صحيح ان المطلوب إعطاء فرصة لعودة المفاوضات لكن هنالك شروط يجب توفرها لانجاح تلك الفرصة وهي شروط تقوم على التبادلية والتقابلية والتزامن في الالتزامات بين الطرفين. فلن يستطيع ابو مازن ان يكون شريكا في مشروع شارون لتسوية انتقالية طويلة الاجل تفرض سقفا منخفضا جدا للمطالب الفلسطينية بل المطلوب ان يكون شريكا في مشروع "مدريد" التي نسيها أهلها أو تناسوها ومشروع أوسلو رغم نواقصه وهي عديدة ومشروع خريطة الطريق التي يعاد إحياؤها ونرجو الا يكون ذلك مؤقتا لجذب الفلسطينيين ثم تركهم وحيدين من جديد.
المطلوب لإنتاج الفرصة للخروج من حال اللاحرب واللاسلم القائمة على الاستنزاف ولعبة التصعيد، التوصل إلى هدنة متبادلة وليس احادية مع آلية رقابة وضمانات دولية وهذا ما يجب ان يقوم به "الرباعي" اساسا. التمهيد للعودة لعملية السياسية يستلزم تكريس الهدنة المتبادلة وتحديدا لقواعد إدارة الصراع العسكري لاحتواء أي عمل عسكري بشكل استباقي فيما لو حصل خروج عن هذه الهدنة. قواعد تكون بمثابة "تفاهم" يضمنه "الرباعي" لإدارة الصراع في فترة التمهيد وتحريك العملية السياسية. تفاهم يشبه "تفاهم نيسان" اللبناني الاسرائيلي في روحه وفلسفته ودروسه رغم اختلاف العديد من المعطيات بين الحالتين.
لكن الهدنة المتبادلة لا تقف على رجليها لفترة طويلة اذا لم تندرج في افق سياسي واضح للخروج من حال اللاحرب واللاسلم. افق يحدد بوضوح عناصر التسوية النهائية. كما ان تجميد الوضع العسكري على الارض يستدعي ايضا تجميد كل نشاط اسرائيلي يساهم في تكريس الاحتلال ويعتبر عدوانا بشكل آخر، ولكنه يستدعي اساسا لانجاحه ولتثبيته منع حصول جمود سياسي يؤدي إلى تثبيت الأمر الواقع. فطبيعة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من حيث انه مسألة احتلال وتحرير وطني تضع طرفيه في موقعين نقيضين من حيث التعامل مع الجمود السياسي. الطرف الاحتلالي يرتاح لذلك، لتكريس الوضع القائم في حين ان الطرف الذي يرزح تحت الاحتلال لا يمكن ان يقبل بذلك الوضع وبالتالي يكون العمل المسلح شرعيا كوسيلة وحيدة لإدارة الصراع عندما يستقر الآخر في حالة جمود سياسي كامل.
ثلاثة شروط يفترض تحقيقها لانجاح الفرصة أو لإبقاء "نافذة الأمل مفتوحة" وهو التعبير الأكثر شعبية في اللغة الدبلوماسية الدولية منذ وفاة الرئيس عرفات، اول هذه الشروط ان لا يكون الانسحاب من غزة نحو إعادة تموضع في الضفة الغربية. فك الارتباط مع غزة لا يجوز ان يعني فك ارتباط غزة مع القضية الفلسطينية وألا تتحول ديبلوماسية التسوية نحو منطق المسارات المستقلة عبر تفكيك القضية الفلسطينية: مسار اسرائيل غزة ومسار اسرائيل الضفة الغربية واسرائيل اللاجئين واسرائيل القدس كل على حدة. هذا ما يهدف إليه المشروع الشاروني للانسحاب الاحادي. وثانيا القيام بخطوات "فك ارتباط" لاحقة في الضفة الغربية أو اعلان ذلك والالتزام به، وثالثا الإعلان الواضح من طرفي الصراع عن الأهداف النهائية للمفاوضات، والالتزام الفعلي بذلك بضمانة دولية. فالقول بأن هنالك "وضعا داخليا" اسرائيليا لا يسمح بذلك حاليا وتجب مراعاته يستدعي ايضا القبول بالوضع الداخلي الفلسطيني في السياق ذاته وضمن المنطق نفسه.
وحدها الهدنة المتبادلة ضمن الأفق السياسي الواضح تسمح عند ذلك بإنجاح الحوار الفلسطيني، حوار السلطة والمقاومة المسلحة، حول بلورة استراتيجية عمل وطني لا تقوم على نزع سلاح المقاومة ولا تدخل في ثنائية عسكرة الانتفاضة أو سلميتها بل تفترض توحيد وظيفة السلاح الفلسطيني من خلال تثبيت دوره في اطار تلك الاستراتيجية المطلوبة.
فائتلاف "عسكرة الانتفاضة" الذي قام من خلال توقيت عملية معبر كارني بتوجيه رسالة متعددة الأبعاد إلى ابو مازن، بأنه رقم صعب لا يمكن تجاوزه وبشأن ضرورة صياغة جديدة للعلاقات الفلسطينية الفلسطينية وإدارة مختلفة لدبلوماسية الصراع والتسوية مع اسرائيل، هذا الائتلاف يتحمل عند ذلك مسؤولية تحديد موقفه من العسكرة كاحدى خيارات إدارة دبلوماسية "الصراع والتسوية" أو كوظيفة ثابتة ومفتوحة في إدارة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. واذا لم يكن ابو مازن "عرفات ثان" في حركته ومبادراته وإدارته لدبلوماسية الصراع والتسوية، فإنه مثل أي زعيم فلسطيني سيبقى عرفات آخر في التمسك بالخطوط الحمر أو ثوابت التسوية الفلسطينية الاسرائيلية.