في كل التجارب العربية الوحدوية.. كان رجال السياسة في الصف الأول على عكس ما فعلت اوروبا.. عكف خبراء الاقتصاد على صياغة معالم الوحدة الاوروبية التي كان محركها الاقتصاد والمصالح والرخاء الذي ينتظر شعوبها رغم كل الخلافات والحروب التي خاضتها بلدانها.
اليوم.. الحلم تحقق بالتطبيق الفعلي في الأول من يناير الجاري لإتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى الحرة. تأخرنا كثيرا.. لا بأس.. المهم اننا قرأنا المعادلة بلغتها الصحيحة.. لغة الاقتصاد والمال والأعمال.. الرخاء قادم.. هذا يتوقف على قبولنا للتحديات ونجاحنا في تجاوز صدمة الفرحة بتجسيد الارادة العربية وعلى استمرار قوة الدفع.
والواقع ان الحدث وان كان يعكس نضجا عربيا في الرؤية وادراكا للمتغيرات الدولية التي افرزها النظام العالمي الجديد الذي يعمل وفق مفهوم تحرير المبادلات التجارية والاعتراف بالكيانات والتكتلات الاقتصادية فإن اهمية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى ترتبط ايضا ببعد اقتصادي عربي واقعي فهي توفر نوعا من التوازن بين التكامل الاقتصادي العربي من خلال فتح الاسواق العربية والانفتاح على الاقتصاد العالمي بثقة. ماذا تقول الأرقام في هذا الشأن؟.
على المستوى العربي ستعمل الاتفاقية على تعزيز التجارة البينية بين الدول العربية خصوصا ان نسبتها منخفضة لا تتجاوز 10 في المائة من مجمل التجارة العربية الخارجية وانها ستنعكس ايجاباً على نمو الصناعات العربية المحلية وعلى التجارة العربية ونموها على الصعيد العالمي.
فقد شهدت الأعوام الماضية انخفاض حجم التجارة العربية من 10 في المائة الى اقل من 3 في المائة لمجمل الاقتصاد العالمي في الوقت الذي شهدت فيه بعض الدول نمواً كبيراً في ثقلها الاقتصادي في العالم ومنها الصين، اضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية التي تبلغ حجم تجارتها في العالم نحو17 في المائة.
كما تراجعت ايضا حصة التجارة العربية من 91 في المائة الى 27 في المائة من التجارة العالمية، بعد ان كانت تشكل الصادرات العربية 125 في المائة من الصادرات العالمية لتصبح حاليا اقل من 25 في المائة، ورافقها انخفاض اهمية الواردات العربية من 58 في المائة الى 72 في المائة من الواردات العالمية.
واذا وضعنا في الاعتبار مثلا الميدان الزراعي فسنجد ان قيمة الفجوة تبلغ اكثر من 19 مليار دولار سنويا وتنصب على منتجات لا تقبل الاستغناء او الاستعاضة كالحبوب اما المواد المصنعة فهي تستحوذ على 67% من مجموع الواردات العربية، وهي تقريبا النسبة نفسها التي تحتلها منتجات الطاقة في الصادرات التي يتعامل فيها العالم العربي مع شركاء ثابتين كالولايات المتحدة واوروبا وبعض البلدان الآسيوية لا يحتاج فيها الى مبادلات بينية وبالتالي من الضروري ان يلعب تحرير التجارة دورا مهما في تطوير وتنويع القاعدة الإنتاجية وتحسين كميات الإنتاج ورفع الكفاءة النوعية للمنتجات من خلال جذب الاستثمارات العربية المهاجرة والتي تتراوح ما بين 850 مليار دولار وتريليون دولار فقط!.
هذا التحول الذي هو أشبه بضخ دماء جديدة في شرايين التجارة العربية سينعكس بالطبع على المقومات الأساسية لمنطقة التجارة العربية الحرة في مجالات حيوية مثل حرية انتقال السلع والخدمات والملكية الفكرية وتحريرها من كافة القيود الجمركية والإجرائية، وتنوع اقتصاديات الدول الأعضاء؛ وذلك عن طريق بناء قدرات ذاتية تكنولوجية في اطار تصور اقليمي يقوم على اعتبار ان الإنتاج هو محرك التجارة. بالاضافة الى مقومات اخرى يتحدث عنها خبراء الاقتصاد مثل تحرير التنقل وترتيب وتطوير الموانئ والمطارات؛ لتسهيل حركة السلع والخدمات ووجود آلية للتمويل والمقاصة وتسوية المدفوعات وايجاد برنامج تمويل التجارة وكذلك ترشيد العلاقات السياسية بين الدول الأعضاء، بحيث يكون القرار السياسي في صندوق المصالح الاقتصادية وان تكون التجارة البينية بعيدة عن الصراعات مثلما يفعل الاتحاد الاوروبي والعمل على بناء شبكة معلومات اقليمية تجمع وتخزن وتوفر المعلومات التجارية، وتسهل الاتصال بين البلدان. في الوقت نفسه، فإن المنطقة العربية بها بعض الأسس التي تسمح بإقامة مناطق تجارة حرة، فهي تمتلك قواعد انتاجية متنوعة زراعية وصناعية تنتج كميات كبيرة من السلع تفوق حاجات الطلب المحلي لكل دولة الأمر الذي يجعل تنفيذ برنامج منطقة التجارة الحرة اكثر سهولة من الماضي.
وذلك في اطار ان الدول العربية متقاربة فيما بينها من حيث التطور الاقتصادي والتقارب في مستويات البحث العلمي والتكنولوجي، ومستويات تراكم رأس المال، وهو ما يسهل عملية التخصص الإنتاجي، واعادة توزيع الموارد بين الدول العربية داخل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى.
لكن ماذا بعد موجة التفاؤل التي احدثها دخول الاتفاقية حيز التنفيذ.. هنا يمكن ان نتحدث عن تدخل السياسة التي يمكن ان تفسد الحلم الجميل فمن المتوقع بحسب خبراء الاقتصاد ان يواجه تحرير منطقة التجارة الكبرى الحرة عدة عراقيل في القيود الجمركية وتطبيق تخفيض الرسوم بين الدول العربية، والاشتراطات والمواصفات في الدول العربية وتعددية المواصفات لنفس المنتج والقيود الإدارية والتي منها اعادة التثمين الجمركي، والمشاكل النقدية في ظل اتخاذ بعض الدول العربية اجراءات التحويل وتعدد اسعار الصرف.
كما ان هذا التفاؤل قد لا يصمد امام واقع سياسي آخر لا سيما في ظل الارتباطات الاقتصادية بين الدول العربية ومناطق اخرى بعضها يقع في افريقيا مثل السوق المشتركة لشرق وجنوب افريقيا (الكوميسا) او في اوروبا (الشراكة مع الاتحاد الأوروبي) او الولايات المتحدة (اتفاقات المناطق الحرة).
والواقع ايضا ان نسبة الـ30% المتبقية من حجم التجارة العربية البينية للسلع والمنتجات المتبادلة، (70% من حجم التجارة العربية وكما هو معروف يسيطر عليها النفط وهي مع الشركاء الخارجيين) تواجه عدة تحديات تحتاج الى مواجهة حقيقية حتى تحقق منطقة التجارة الحرة العربية اهدافها فبخلاف تضارب الالتزامات العربية اذا لم يكن هناك تنسيق ستكون الالتزامات فمن واقع التقرير الاقتصادي العربي التزمت جميع الدول الأعضاء التزاما كاملا بالخفض التدريجي للرسوم الجمركية خلال السنوات الثلاث الأولى 1998 و1999 و2000.
اما تنفيذ الالتزام بتقليص الضرائب ذات الأثر المماثل فلا يتجاوز 58%، واقتصر التنفيذ على بلدان مجلس التعاون الخليجي التي لا تعرف اصلا مثل هذه الضرائب، كما اتضح ان ضعف التنفيذ ارتكز على القيود الكمية، اذ لم تقم اي دولة بإلغائها. وتتراوح نسبة التنفيذ بين 39% و56% فقط.
هناك تحد آخر وهو اهمية معالجة الآثار المالية السيئة الناجمة عن تقليص الرسوم الجمركية، اذ تعتمد البلدان العربية غير الخليجية على هذه الرسوم في ايراداتها العامة وتمويل نفقاتها، فعلى الرغم من الإصلاحات الاقتصادية الهادفة الى تحرير التجارة الخارجية لا تزال حصيلة الرسوم الجمركية تشكل مصدرا اساسيا من مصادر الإيرادات العامة في كثير من البلدان العربية.
من المهم ايضا ضرورة التنسيق بين البلدان العربية بشأن التخصص في الإنتاج حسب الأحوال الاقتصادية لكل دولة، اذ ان وجود منطقة حرة مع انتاج سلع قليلة ومتشابهة في عدة اقطار عربية يقود الى منافسة حادة دون الحصول على نتائج ايجابية وبالتالي الاندماج التجاري العربي وهو الهدف من المنطقة الحرة يحتاج الى التخصص المنظم الذي يكفل تحسين المقدرة الإنتاجية بإدخال التكنولوجيا والأساليب العلمية الحديثة في ليس في الانتاج ولكن في التسويق وهي من اولويات الاتفاقية واهدافها.
على المستوى الدولي اهتم البرنامج التنفيذي لمنطقة التجارة الحرة العربية بالاستفادة من المبدأ الوارد في الفصل الرابع من اتفاقية الجات، والخاص بالدول النامية وبالتكتلات الإقليمية والذي يمنح فترة عشر سنوات قابلة للتمديد الى 12 سنة لإقامة اي شكل من اشكال التكتل الاقتصادي الإقليمي، كما ان البرنامج اعتمد نفس الأسس الفنية المتبعة في منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بإجراءات الوقاية، ومعالجة حالات الدعم والخلل في موازين المدفوعات و مكافحة الإغراق، وكذلك اعتمد البرنامج الأحكام التي جاءت في اتفاقية منظمة التجارة العالمية والخاصة بقواعد المنشأ والمواصفات القياسية والرسوم والضرائب ذات الأثر المماثل ومبدأ الشفافية وتبادل المعلومات الخاصة بالتبادل التجاري وهي نقاط مهمة تساهم في تحرير المبادلات التجارية وتحرير التجارة العربية الخارجية مما يساهم في زيادة نسبتها وفي جذب المزيد من الاستثمارات الخارجية التي تتراجع نسبتها في العالم العربي بحسب الأرقام الدولية.
فحتى نهاية عقد التسعينات قدرت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم بحوالي 440 مليار دولار خصص منها 162 مليار دولار للبلدان النامية وبلغت حصة العالم العربي منها 31 مليار دولار اي 0.7% من الاستثمارات في العالم و1.9% من الاستثمارات في البلدان النامية.
وحصلت البرازيل وحدها على استثمارات تعادل خمسة اضعاف ما حصلت عليه جميع الأقطار العربية، واستحوذت مصر والمغرب والسعودية وتونس على ثلثي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم العربي.
ولعل من أبرز الأسباب التي تؤدي الى هذا التراجع رغم الامتيازات المغرية التي تمنحها البلدان العربية للمستثمرين الأجانب الجوانب السلبية للاعفاءات الضريبية التي تصل الى 15 سنة وتتناول مختلف انواع الضرائب المباشرة وغير المباشرة والتي تربك مالية المستثمر الأجنبي الجاد لارتفاع العبء الضريبي عند انتهاء مدة الإعفاء وهو ما يدفع كثير من المستثمرين اما للانسحاب من السوق او التحايل بتغيير النشاط لمزيد من سنوات الاعفاء للنشاط الجديد وهكذا والحل كما جاء في توصية البنك الدولي الاستعاضة عنها بضرائب ثابتة وملائمة لنمط الاستثمار وهذه نقطة مهمة تركز عليها اتفاقية منطقة التجارة العربية الكبرى الحرة من خلال مفاوضات مع الدول الأعضاء لسن تشريعات جديدة تخدم التجارة العربية الخارجية وتعمل على جذب الاستثمارات العربية بشكل مباشر وكذلك الاستثمارات الاجنبية.