في اجتماع انعقد مؤخراً قال أحد الأمريكيين للحاضرين، وبينهم عرب ومسلمون وأوروبيون، “ترتكبون خطأ فادحاً إذا تمكن منكم وهْم أن التيار المحافظ في الولايات المتحدة طارئ. أنصحكم أن تدركوا الحقيقة وتتخلوا عن الأمنيات مهما كانت ممتعة أو مخدرة، التيار المحافظ في أمريكا هو التيار الأساسي والدائم والمستمر. لم يتوقف يوماً، ولم يتغير ولم يستسلم في أي وقت للمد الليبرالي. أمريكا، ما كانت ولن تكون، بغير عقيدة المحافظين”. وقال أيضاً، والحضور يستمعون باهتمام لأن المتحدث معروف لديهم، فهو قائد بارز في التيار المحافظ وآراؤه تستمع إليها الإدارة الحاكمة بكل احترام وتنفذ الكثير من توصياته ونصائحه، قال “إن التيارات الأخرى في الساحة الأمريكية هي الطارئة والعابرة والمؤقتة، بل لعلها الانحراف الضروري الذي يشد على ساعد التيار المحافظ ويدفعه نحو تصحيح مساره كلما امتدت إليه يد التغيير أو اقتربت منه أفكار تحمل مسميات الإصلاح والتقدم”.
التأمل في هذه الكلمات يثير في الذهن أفكاراً شتى، أهمها المقارنة مع جوانب تعيشها المنطقة العربية. فالرأي شائع بين بعض المفكرين العرب والمسلمين بأن السائد في المجتمعات العربية والإسلامية هو التيار المحافظ، بمعنى أن “السلطة التقدمية” في العالمين العربي والإسلامي، سواء أكانت ليبرالية أم يسارية أم ثورية سلطة عابرة أو فاصلة بين مرحلتين أو شكلين من أشكال السلطة المحافظة. شائع أيضاً بين المفكرين الممثلين للتيارات المحافظة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً أن السواد الأعظم من شعوب هذه المنطقة محافظ بطبيعته، وأن هذه التيارات تمثل السند الأهم لسلطة سياسية وثقافية سياسية وفكر سياسي محافظ، وتتمسك بالفكرة نفسها التيارات ذات التوجهات الدينية. يتفرع من هذا الرأي أفكار شتى، وأغلبها داعم له.
كتب مفكر أمريكي كتاباً تحت عنوان “كنساس نموذجاً: كيف كسب المحافظون قلب أمريكا”، ذكر فيه أن الحزب الجمهوري الأمريكي قرر استعادة المكانة السياسية للمحافظين في الساحة الأمريكية منذ أن شعر في أواخر الستينات بالخطر على منظومة القيم. كانت الولايات المتحدة تعيش في ذلك الحين حال ازدهار ثقافي غير مسبوق وكانت الطبقة المثقفة تمر بأزهى مراحل تطورها، واقترن هذا الازدهار بانفتاح شمل كافة أوجه الحياة وسادت المجتمع سلوكيات ليبرالية بلغ التطرف فيها أحياناً حداً بعيداً اقترب بعضها من حد الانحلال الخلقي والتسيب المجتمعي. وازدحمت الساحة الفكرية بكل الأفكار وبخاصة ما يتصل منها بالعلمانية وعادت إلى الصدارة أفكار التطور الداروينية والجهر بالخروج عن الأديان والتقاليد، وتعرضت القيم لتحولات عنيفة.
ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف هجمات الليبرالية، وربما كان آخرها الهجمة التي رافقت القفزة المفاجئة في مسيرة العولمة خلال بعض سنوات الثمانينات ومعظم التسعينات. ومع كل هجمة من التيار الليبرالي ضد أسس الحكم والأخلاق في أمريكا كان المحافظون حريصين على إبراز خطورة “التحول نحو اليسار والإلحاد وانحلال المجتمع”، كما كانوا يسمون هذه الهجمات. ولم ينته القرن العشرون إلا وكان اليمين المحافظ قد استعاد معظم أرصدته، وهز معاقل الليبرالية حيث توجد أغلبيتهم في المدن الكبرى والساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة. وكان أحد المعاقل في ذلك الوقت البيت الأبيض حيث كان يجلس رئيس ليبرالي، تصرف معظم عهديه في كل الشؤون، ما عدا الشخصية، كرئيس محافظ.
وقد ركز المحافظون حملة استعادة المكانة والنفوذ على عدة محاور، كان أهمها محور المثقفين وأغلبهم كان ينتمي للتيار الليبرالي. إذ صادفت إحدى الحملات انتهاء الحرب الباردة وبروز رأي بين الجمهوريين الأمريكيين يدعو للبحث عن عدو جديد يلم أطراف الجماعة المحافظة ويعبئ الشعب الأمريكي وراء أهداف المحافظين، ووقع الاختيار على جماعة المثقفين والأفكار التي كانت تبشر بها لتكون العدو الداخلي الجديد لأمريكا. واستخدم المحافظون كافة الآليات للوصول إلى الفرد الأمريكي العادي وخاصة في مناطق الوسط والجنوب. هاجموا “كل بدعة” مثل شرب القهوة المخلوطة بالقشدة وحيازة السيارات “الفولفو” رمز الصناعة الأجنبية الفاخرة، ونقل التلاميذ السود مع البيض في حافلات مشتركة، وانتقدوا محبي الأشجار فأطلقوا عليهم “حضنة الأشجار” كناية عن المدافعين عن البيئة، وهاجموا محبي الأغاني الصاخبة كالروك آند رول، وكان التعبير السائد أنها أغان هابطة بالذوق والأخلاق معاً، وحملوا على المثليين الذين يحظون بتأييد المثقفين الليبراليين وعطفهم، وعلى الساعين لتمكين النساء وكذلك على المعارضين لحكم الإعدام الذين يطالبون بمعاملة كريمة للمساجين. واتهموا بالإلحاد أو الخيانة كل الذين اتخذوا جانب النقد للتدين وظواهره ورموزه، والذين يسخرون من المواطن الأمريكي الذي يلوح في كل مناسبة بالعلم الأمريكي ويحتفظ في بيته ببنادق ورشاشات للدفاع عن نفسه وممتلكاته. وكان أبرز من استخدم هذا الأسلوب في الحملة ضد الليبرالية اثنان من المرشحين لرئاسة الجمهورية: ريتشارد نيكسون وباري جولد ووتر. ويلاحظ مؤلف الكتاب أن بعض بنود هذه الحملة كانت نفسها البنود التي استخدمها النازيون في ألمانيا والبلاشفة في روسيا في عقد الثلاثينات لمطاردة أنصار التيار الليبرالي.
وقد سمعنا عن قادة الفكر المحافظ الجديد في أمريكا أو قرأنا لهم أفكاراً تقول إن “حكومتنا وثقافتنا ومدارسنا تهيمن عليها طبقة سياسية حاكمة راقية التعليم إلى حد لا يتناسب مع نوع التعليم الذي يتلقاه أغلب المواطنين، وتحتقر معتقدات الجماهير العادية وممارساتها، طبقة متغطرسة ومقززة ومغرورة ومدعية، وتتكبر على الدين والمعتقدات كافة، ومادية التفكير ومراوغة”. يقصدون المثقفين، وبينهم الإعلاميون، من أصحاب التوجهات الليبرالية.
ويرد الليبراليون، وقد صاروا في موقع الدفاع، بأنه حدث بالفعل أن تبوأت الصدارة بعدهم في مواقع النفوذ الثقافي في الولايات المتحدة فئة من “المثقفين الجدد”. هؤلاء لديهم، كما يقول الليبراليون، قدرات خاصة، أهمها القدرة على التحلي بسلبية مفرطة، أو بمعنى آخر قدرة سالبة بقوة هائلة، هؤلاء يكتبون ويبشرون ويقودون وهم في حال عدم تأكد، يتصرفون بغموض شديد وفي جو من الضبابية، وبنيات ملؤها الشك والتشكيك. ويقول قادة الليبرالية الأمريكية، إن المثقفين الجدد من المحافظين فقدوا الرغبة في البحث عن الحقيقة والعقل والمنطق. أسهل عليهم تخوين الآخر واتهامه بالإلحاد والكفر والتعصب والإرهاب وتشويه سمعته عن الدخول معه في حوار أو محاولة فهم ما يدور في ذهنه ويدافع عنه. المثقفون الجدد يرفعون شعارات العودة بالأخلاق والسلوكيات ونظم التفكير إلى الماضي، إلى الجذور. ويأتي الولاء عندهم قبل أي شيء آخر كالولاء الأولي الذي عرفناه للقبيلة وأساطيرها وللدين والطائفة والحزب والزعيم. ويقتبس أحد المثقفين الليبراليين عن نابليون بونابرت تعليقه على سلوك هذا النوع من السياسيين أو المثقفين بأنهم يتفاخرون في العلن بقطعة من الحرير ويعلنون أنهم مستعدون للموت من أجلها. يخشى الليبراليون الأمريكيون أن تكون العودة إلى تقديس العلم الأمريكي والوطن مقدمة لفاشية أمريكية تهون أمامها فاشيات التاريخ كافة. أظن أن الخشية نفسها لدى بعض الليبراليين العرب المخضرمين من سلوكيات الليبراليين الجدد الذين أحاطوا بالسلطة السياسية في كثير من بلادنا العربية، فيدفعونها نحو الاستبداد.
ليس جديداً هذا الصدام بين القوى المحافظة والقوى التقدمية، وبالتأكيد ليس غريباً عنا في عالمنا العربي فقد نشبت بفضله حرب باردة عربية استمرت لأكثر من عقد من الزمن. وخلفت جروحاً غائرة في الجسد السياسي العربي، وتشوهت بسببها صورة المحافظين والتقدميين، سواء كانوا يساريين أو ليبراليين. ومنذ ذلك الحين لم تتمكن النخب السياسية العربية من استعادة ثقة الجماهير بها. ولم يكن الصدام الأول، ولا كان الصدام الأخير، فالتاريخ الإنساني حافل بثورات وثورات مضادة، بل إن الإنسان يكاد يكون قد أدمن متابعة هذا المسلسل أو ممارسته، يكاد هذا الإدمان يصطف مع ثلاثية الإدمان عند الإنسان منذ فجر التاريخ البشري، إدمان السكر وإدمان الدهون وإدمان الجنس. لقد أدمن أيضاً ممارسة الثورة على الوضع القائم وممارسة الثورة المضادة لثورته مدفوعاً بحنينه إلى الماضي.
وتتشابه بعض توجهات المثقفين الجدد من المحافظين الأمريكيين وبعض توجهات كثير من المثقفين “الجدد” في العالم العربي رغم أن وصفهم بالجدد يبدو غير دقيق باعتبار أن أغلبهم كان في مواقع القيادة والريادة في سنوات المد التقدمي “الثورية” ولعب دوراً في الحملة ضد المحافظين العرب. هناك وهنا، يقف الجدد ضد “الأيديولوجيين” أي ضد المثقفين المنادين بحريات أوسع للمواطن بحجة أن هذه الحرية قد يستغلها أعداء النظام الحاكم، أي في منظور هؤلاء، أعداء الوطن. هناك وهنا، يعتمد الجدد على مشاعر التدين، وأحياناً، قوة المؤسسة الدينية، من أجل دعم الحكم المحافظ. وقد تبدو الصورة مختلفة في عالمنا العربي الذي يدخل صراعاً مع تيار ديني أشد تطرفاً نحو اليمين من النخبة الحاكمة ومن المثقفين الجدد. ويتأكد التشابه بين الجدد هناك وهنا في الاعتماد على المشاعر الدينية إذا اعتبرنا أن المؤسسة الدينية في العالم العربي، تقتصر على المؤسسة الدينية الرسمية، وليست كما في ظني، هي كل ما يتصل بالممارسات الجماعية للدين ابتداء من المؤسسة الدينية الرسمية وانتهاء بجمعيات الرفاه والرعاية والتطوع مروراً بالدعاة الأفراد الذين يبيعون رسائلهم على شرائط مسموعة أو مرئية وبرامج الدين في الإذاعة والتلفزيون. بهذا المعنى يعتمد المحافظون الجدد الأمريكيون اعتماداً كاملاً على كافة أنشطة “المؤسسة الدينية”، ويشجعونها ويتبادلون معها التقوية والتمكين. بينما يعتمد المثقفون الجدد من العرب والمسلمين على أنشطة بعينها ويرفضون أنشطة أخرى يعتقدون أنها -إن قويت- فستحرمهم فرصة احتكار المناصب السياسية والانفراد بقيادة اليمين.
وهناك وهنا، تتمحور الدعوة عند الجدد حول البحث عن عدو مناسب في الداخل والخارج تعبأ من أجله الجماهير “المحافظة” وحول أولوية الوطن ورموزه مصحوبة بغطرسة وتعالٍ لتغطية الفشل الداخلي والخارجي، وحول إعلاء مفهوم الواقعية والزعم بهجر الأيديولوجية لتبرير الممارسات غير الإنسانية والسياسات المترددة والمتقلبة. ويستغرق “الجدد” ويبدعون في الغموض والمراوغة ليخفوا اعتمادهم على قوى وممارسات غير مقبولة جماهيرياً كالفساد والولوغ في سياسات خصخصة الرعاية الاجتماعية والصحية وتفاقم سوء الإدارة وتردي أخلاقيات التعامل.
تتشابه أشياء هنا مع أشياء هناك. ولكن يبقى أن هنا غير هناك. المثقف هناك، مازال عنصراً حراً والسلطة رغم عنفها وعنفوانها مازالت مقيدة.