(I)
المنظّرون العرب لفكرة تفتيت القومية العربية الى قوميات دولتية (من دولة) او إثنية وطائفية وعشائرية، يندرجون في فئتين: “واهمون” و”متآمرون”. الواهمون، وهم كثرة، يعتقدون أن بديل إيديولوجيا القومية العربية هي إيديولوجيا الدولة- الامة التي تستند إليها الآن كل الدول العربية ال 22. وهم يؤمنون أيضاً إيماناً أسطورياً بأن الديمقراطية مستحيلة كل الاستحالة مع القومية العربية، وممكنة كل الامكان مع قومية الدولة- الامة.
وهم مخطئون في كلا الحالين.
فالدولة في كل الأقطار العربية كانت، ولا تزال، عاجزة عن تأسيس أمة، ولو بعد قرون.
وهذا ينطبق ليس على دول صغيرة كالكويت وقطر والبحرين ولبنان والاردن وغيرها، بل حتى على دول كبيرة كمصر والمغرب والسعودية.
مصر، على سبيل المثال، تسجل أعلى نسبة انتماء وطني في العالم بعد إيران. فحين سئل مواطنوها في استطلاع أخير عما إذا كانوا سعداء بكونهم مصريين يعيشون على أرض الكنانة، اجاب 80 في المائة منهم بنعم. هذا في مقابل 30 في المائة في هولندا، و60 في المائة في فرنسا.
وبرغم ذلك، لم يستطع هذا الشعور الوطني المصري أن يتطور الى شعور بأمة مصرية، لأن أغلبية الوطنيين المصريين ينتمون أيضاً الى أمة الإسلام ديناً وحضارة، وإلى الأمة العربية لغة وثقافة واستراتيجيات.
وإذا ما كانت الهوية في بلد كبير تكوّنت دولته الموحدة قبل آلاف الاعوام، مأزومة على هذا النحو، فهل يكون الحال غير ذلك في دول صغيرة، او حديثة العهد، او محدودة الديموغرافيا؟
في دولة متوسطة كسوريا، اللحمة الوطنية الوحيدة القادرة على إبقاء هذا الكيان دولة واحدة هي القومية العربية لا القومية السورية. وكذا الامر في فسيفساء لبنان، وتنوعات الأردن، وانقسامات العراق (حيث العروبة هي القاسم الموحّد الوحيد بين السّنة والشيعة، ومن ثم قاعدة التفاهم الرئيسية بين القوميتين العربية والكردية).
اما في دول الخليج، فإن وهم الدول- الامم أشد خطورة بما لا يقاس لأنه لن يؤدي فقط، كما في الهلال الخصيب، الى التحلل لمواد طائفية وعشائرية، بل الى ما هو أدهى : ذوبان التركيبة السكانية العربية في الطوفان الديموغرافي الوافد الذي سيخلق تناقضات إثنية ودينية لا حصر لها.
وهذا سيحدث إذا ما فقدت دول الخليج صلة الرحم بعمقها القومي العربي الواقعي، وطاردت شعار الدول- الأمم.

(II)
هذا على صعيد الدولة- الأمة.
أما على جبهة الديمقراطية والعولمة، فيقع الواهمون في خطأ فادح حين يربطون بين نشوء الديمقراطية وبين بروز الدولة- الأمة.
إذ برغم أن هذا الربط مهم تاريخياً، خاصة في أوروبا، إلا انه يستخدم هنا لمجرد تجاهل سؤال راهني أهم: هل كانت الدول- الأمم العربية قابلة ل”الحياة السوية” اقتصادياً وإيديولوجياً وسيادياً طيلة نصف القرن المنصرم؟ وهل ستكون قابلة للحياة الآن في عصر العولمة، حيث شرط الوجود لأي دولة أن يكون تعداد سكانها 300 مليون نسمة فما فوق؟
الديمقراطية في الدول- الأمم الغربية الكبرى نفسها تتعرض حالياً الى تحديات كبيرة على يد عولمة رأسمالية أصولية منفلتة من عقالها. فهل تكون “الدول- الأمم” العربية المفترضة، التي لا تزال تتلمس طريقها الديمقراطي وسط حقول ألغام داخلية وخارجية لا تحصى، أسعد حالاً؟
ثم: لماذا يصر الواهمون على ان القومية تتناقض مع الديمقراطية. لماذا يتناسون بأن الامم الانجليزية والفرنسية والامريكية والهندية كانت، ولا تزال، قوميات ديمقراطية؟
الواهمون يتخبطون، لأنهم يبحثون عن أسباب الكارثة العربية الراهنة، فلا يجدونها سوى في القومية العربية.
وما هو نقيض القومية العربية؟
إنه، بالنسبة لهم، قوميات الدول- الأمم المحلية، برغم انهم لا يتحدثون صراحة عن هذا الخيار لأسباب يجب أن يسألوا هم انفسهم عنها.
لكن “المتآمرين” لا اوهام لديهم حول هذا الوهم. فهم يدركون أن الدول العربية الراهنة غير قادرة على التحول الى دول- أمم. وهم يعملون مع الامريكيين و”الاسرائيليين” على إقامة شرق أوسط جديد تتكون وحداته من “أمم” طائفية وعشائرية جديدة.
وهكذا عاد الحديث (مجدداً) عن “دول- أمم” درزية، ومارونية، وعلوية، وسنّية، في سوريا ولبنان، وقبلية - عشائرية في العراق والأردن، وصولاً ربما الى إقامة دويلات إفريقية جديدة في السودان (الجنوب ودرافور والنيل الأزرق) والمغرب العربي.
الأمور لما تصل بعد الى هذه المرحلة. لكنها قد تصل قريباً.
إذ حين تقرر الولايات المتحدة “لبننة” المنطقة العربية، لن يطول الأمر قبل أن تقبل أيضاً خيار “البلقنة” التفكيكي “الاسرائيلي”. وعلى أي حال، اللبننة تتضمن في تضاعيفها البلقنة، لأن لبنان الطائفي موحّد شكلاً ومفكّك فعلاً.
ومع استمرار غياب الخيار القومي العربي، ستكون هذه النقلة الدموية من اللبننة الى البلقنة أسهل من شربة ماء.

(III)
هل يقبل الواهمون بمثل هذا المصير؟
إذا كان الجواب بالإيجاب بذريعة الواقعية والبراغماتية، فإنهم سيتوقفون عن كونهم واهمين ليصبحوا متآمرين.
أما إذا كان الجواب بالنفي، فيجب أن يبدأ هؤلاء من الآن بالتفكير ملياً في الرابط بين الفكر والسياسة: فكرهم هم، وسياسة أمريكا و”إسرائيل”.