لندن: اختار الكاتب الروائي والمسرحي العراقي عارف علوان نشر روايته الجديدة «الأضواء» في موقعه على الإنترنت www.arefalwan.com، مطلقاً عالم النشر الورقي ربما إلى الأبد، بعد نشر إثني عشر كتاباً بين الرواية والمسرحية والمجموعات القصصية، وكانت تجربة مهبطة في أغلبها، كما يقول. هل تنجح هذه التجربة، وهل سيلجأ إليها كتاب آخرون تحرراً من جشع قسم كبير من دور النشر؟
هنا لقاء مع الكاتب حول هذه التجربة الجديدة
* لماذا اتخذت هذه الخطوة؟هل نتيجة تجارب محبطة مع الناشرين، أم لاعتقادك أن النشر على الإنترنت وسيلة أنجع للوصول إلى قدر أكبر من القراء؟
ـ للسببين كليهما. فقد نُشر لي اثنا عشر كتاباً بين الرواية والمسرحية وكتاب واحد ضم عدداً من كتاباتي النقدية في الأدب، كان التعامل مع الدور في البداية مفيداً بشكل أو بآخر، أما النهاية، أعني في العقدين الماضيين، فقد جاءت محبطة.
السبب، إن دور النشر، التي كانت يوماً ما تتعامل مع النصّ على ضوء معايير أدبية وثقافية، تحولت الآن إلى مسلخ للحركة الأدبية والثقافية في المنطقة باستخدام شريعة (ادفع ـ نطبع) هذه الشريعة غير موجودة في بقية العالم. وبهذا الأسلوب، الذي يساوي بين النصّ القوي والنصّ الضعيف، وحتى السفيه أيضاً، آذت دور النشر الحركة الأدبية وساندت التوجهات الأصولية، وهي بوعي كامل بما تفعل، لأنها أغرقت السوق بنصوص هزيلة مما حطم النظرة الجليلة التي كان القارئ يحملها تجاه الأدب، ومن ثم غيّرت اهتمامه بعد أن أضعفت تشوقه السابق إلى العمل الجديد، المتطوّر والمعاصر في سرده وموضوعه.
مثلاً، الأجيال السابقة كانت تنتظر رواية نجيب محفوظ الجديدة، أو مجموعة ليوسف إدريس، أو ديوانا جديدا لخليل خوري، لكي يطّلع القارئ على تطور سرد الكاتب أو شعره، ومفاهيمه، وآرائه الجديدة عن الحياة، ويقضي الشباب الأيام التالية في النقاش والحديث والكتابة. الآن، ورغم وجود روائيين وكتّاب قصة جيدين لهم نتاجات ذات نَفس معاصر، لكن لا يوجد إلاّ عدد قليل جداً من القراء يهتمون بكتاباتهم، أو يتفاعلون معها، لأن دور النشر أصبحت تهتم بنشر كتب التراث، واللاهوت، وكتب الحديث وكأنها اكتشفت الإسلام فجأةً؟
* وهل تعتقد أن النشر عبر الإنترنت وسيلة أنجع للوصول إلى قدر أكبر من القراء؟ أو بإمكانه خلق جيل مشابه في اهتمامه بالأدب مثل الأجيال السابقة؟
ـ قراء الأدب المعاصر على الإنترنت أكثر من قرائه في الكتب. فإذا دخلت الآن على الإنترنت ستجد مئات المواقع التي تنشر أخبار الأدب والفنّ والمسرح والثقافة، كما ستجد آلاف المواقع الشخصية لكتّاب في بداية تجاربهم، وأقل من ذلك لكتّاب وشعراء معروفين، لكن بشكل عام يوجد حوالي عشرة ملايين مستخدم عربي للإنترنت في الشرق الأوسط وبين الجاليات في بقية العالم، والعدد يتزايد على مدار الساعة كما تشير الإحصائيات التي تظهر بين فترة وأخرى. وعندما تتخلّص كل البلدان العربية من الرقابة والتعتيم التي ابتدعتها الأنظمة الدكتاتورية، سيكون لكل شاب أو شابة جهاز كومبيوتر واشتراك في شبكة على الإنترنت. هذا يعني بين 10 إلى 12 مليون متصفّح، وهو عدد هائل ستجد الكتابات الأدبية المعاصرة نصيبها الكبير من القراء من بينه.
أسوق لك مثلاً من تجربتي، ففي شهر ديسمبر الماضي دخل موقعي 1552 زائرا، وهذا ما لم يحصل في حياتي الأدبية من قبل، ويدخل نفس العدد، وربما أكثر، إلى كتاب لهم مواقع مثل الكاتبة غالية قباني، والشاعر أمجد ناصر، والكاتب سمير اليوسف، والقاص لؤي عبد الإله والشاعرة صباح زوين، والشاعر فاضل السلطاني، وأنا مطّلع على حركة الزوار هذه لأننا حصلنا في نفس الفترة على مواقع مجانية من شركة .(Yahoo)وتقول إحصائيات الشركة إن ما بين 5500 ـ6000 زائر كان يتردد على المواقع المذكورة في الأعوام من 2001 إلى 2004، وتوجد مواقع لكتّاب وشعراء آخرين ربما يحضون بزوار أكثر.
أنا أتلقى في اليوم بين رسالتين إلى خمس رسائل بالبريد الإلكتروني من قراء يسألون أو يبدون ملاحظات، فأردّ على رسائلهم بلا تأخير، وهذه العلاقة مع القراء أيضاً لم أشهد مثلها طوال حياتي الكتابية!
نحن إزاء أداة عصرية مدهشة، ومهمة، للأسف استغلتها الحركات الأصولية قبل الكتّاب العرب، واستطاعت من خلالها جذب ملايين الشبّان وتحويلهم إلى أدوات تنفّذ من خلالهم سياساتها الإرهابية.
إذن لا يوجد مقارنة بين النشر على الإنترنت والنشر على الورق، وكما ذكرت في المقدمة القصيرة التي كتبتها لرواية (الأضواء) فالكاتب العربي لم تأته الشهرة من خلال دور النشر، إنما أسست شهرته ورسختها الصحف والمجلات والإذاعة وأخيراً التلفزيون. عدا إنني لا أعرف كاتباً أو شاعراً عربياً واحداً اشترى شقّة بغرفة واحدة ومطبخ من مردود كتبه، إلاّ أنني أعرف، ويعرف الجميع، أن أصحاب دور النشر أصبحوا يملكون شققاً وبيوتاً فخمة، أو بنايات، ليس من بيع الكتب، إنما من صفقات أخرى كانت الكتب الأدبية والثقافية واجهة لإبرامها. لذلك لن يخسر الكاتب شيئاً إذا ما فكّر يوماً بنشر أعماله مباشرة على الإنترنت، بل سوف يكسب قراء أكثر.
* هل تعتقد حقّاً أن القارئ سيقرأ رواية كاملة على الإنترنت؟
ـ قارئ الإنترنت يمكنه طباعة الرواية على الورق لقراءتها ثم الاحتفاظ بها في مكتبته، وهذا لن يكلّفه غير ثمن الورق وحبر الطابعة الذي يكفي في العادة لطباعة 2000 صفحة أو أكثر، ويمكنه طبع القصة القصيرة، كما يمكنه قراءة المقال على الشاشة، فالإنترنت يمنح القارئ فرصة الطواف على المواقع والعمل في ماكنة البحث للوصول إلى المادة الأدبية أو التعليمية ثم اختيار طريقة قراءتها.
* ماذا عن النقد؟ هل يمكن أن تنشر الصفحات الثقافية نقوداً أو متابعات لروايات أو قصائد منشورة في الإنترنت فقط؟
ـ الناقد الجيد يتبع النصّ المتميز أينما يكون. الفرنسي مانسيون انكبّ عشرة أعوام يدرس الأحجار وخرج بعملين عظيمين، فك رموز اللغة الهيروغليفية وترجمة (كتاب الموتى). ريتشارد بيرتون الإنكليزي جمع الأوراق المتهرئة والقصاصات المدفونة ليجمع ويترجم (ألف ليلة وليلة). وبالنسبة للأدب الحديث، كلنا نعرف انتقال الشاعر الأميركي إزرا باوند إلى إنجلترا لمتابعة الحركة الأدبية فيها فاكتشف وكتب عن عشرات الشعراء المهمين، ورعى نصوص شعراء وروائيين كبار مثل تي. أس. إليوت، والكاتب الأيرلندي جيمس جويس.
الكسالى، بطبيعتهم، لن يفعلوا شيئاً كبيراً، حتى لو كانت النصوص الجيدة تحت وسائد نومهم!
* هل توصي الكتّاب بنشر أعمالهم على الإنترنت كوسيلة لمحاربة جشع الناشرين؟
ـ أنا لا أريد الانشغال بإعلان الحرب على دور النشر العربية، ولا أقول إن النشر على الورق خطأ، وقد سبقني الكثيرون في التشكّي من سلوك دور النشر أو تلاعبها، وقد ذهب عدد من المؤلفين إلى تأسيس دور خاصة لنشر أعمالهم والحفاظ على حقوقهم، أو ماء وجوههم، وسأترك هذه المظاهر السيئة للمستقبل كي يحكم عليها. لكنني شخصياً كرهت عمليات النشر العربي لأنها محبطة، وغير أمينة، ولا تعطي ميزة للنصّ الجيد، وعملية النشر في المنطقة العربية وبكل صورها لم تعد تجري ضمن استراتيجية ثقافية سليمة، حتى الصحف ذاتها أبعدت المحررين المتمرسين والذين يعرفون أصول النشر عن صفحاتها الثقافية، لأن هيئات التحرير لا تهتم بالثقافة، ولا بالصورة الصحيحة التي كانت يوماً تفتخر بها، ومكنتها من خلق جيل متابع له وعي عصري واضح، فغدا عدد المحررين الذين يملكون حسّ نقدي يسمح لهم بالاختيار والمتابعة والابتكار قليل جداً، وأغلب الصحف الثقافية يتولاها الآن محررون بلا خبرة في العمل الصحافي الثقافي، أو محررون يسقطون عقدهم على عملية النشر، أو ينغلقون على أسماء معينة ويجدون ذلك كافياً ويعتقدون أن من حقهم أن يجدوه كافياً، لأن هيئات التحرير لا تعتبر من الضروري مراقبة تطور عملهم أو دراسة مستواه، السبب أن هذه الهيئات منشغلة في ما تراه أوضاعاً سياسية متدهورة يجب إصلاحها قبل أن يحلّ الطوفان، من غير أن تنتبه إلى أن إهمالها لصفحاتها الثقافية وتقليص مساحتها يدفع هو الآخر إلى تدهور الوضع الثقافي سواء بسواء مع التدهور الذي يحكم سيطرته وشروطه على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية!
* بما أنك تطرقت إلى الصحافة الثقافية أيضاً، هل يمكن إيراد أمثلة معينة على هذه الملاحظات؟
لا أحب تحديد المستويات والأسماء في هذا اللقاء، لكنني أذكر لك حادثة طريفة تحوّلت معي إلى مقلب، لأنني أتسامح بسرعة منعاً لإحراج الإنسان. ففي إحدى المرات أرسلت رسالة فاكس إلى محرّر عيّن حديثاً اطلب سحب قصة قصيرة لي وجدتها تأخرت عن النشر قياساً بالأسماء التي كانت تتكرر كل أسبوع وبلا انقطاع في صفحاته الثقافية، قلت له: «لقد اخترت أسماء قبيلتك وانتهى الأمر، فلم أعد أرغب في نشر القصة» فاتصل بالتليفون يؤكد أن القصة ستنشر، وأنه لا يتعامل بانحياز مع المواد الخ، وقد جعلني ارتباكه وحزنه أثناء الحديث الطويل أشعر بالندم، وعبرت له عن الأسف لتعجلي، لكن القصة ظلت نائمة في أدراجه ثلاثة أسابيع أخرى، بينما ظلت الأسماء ذاتها تتكرر في صفحاته كل أسبوع! وظل ملتزماً تجاه «قبيلته» الثقافية الصغيرة حتى هذه اللحظة، مما جعلني أندم، وهذه المرّة، على الأسف الذي أبديته له في السابق! فالإنسان عندما يتشبّع بالعقلية الشللية لا يمكنه أن يفعل العكس حتى لو رغب بذلك، وحتى لو كنت كريماً في ردود أفعالك معه! وهذا هو ما نسميه التخلف، إلاّ أننا لا نعرف أين يكمن فينا! لهذا أعتقد أن ظهور مثقف شاب يعمل لرصد ما ينشر في الصحف الثقافية على مدى أسبوعين أو أكثر لكتابة تقييم علمي عن مستواها، وأسلوب عملها، أكثر فائدة من ذكر الأسماء.
* إذن لنعد إلى الإنترنت، نعتقد أن تجربة الأعمال الإبداعية على الإنترنت ما زالت محدودة جداً، وحتى هذه المحاولات المحدودة لم تنجح. ما رأيك؟
ـ إنها محدودة لكون عمر الإنترنت لم يتجاوز الأربعة عشر عاماً، والسطو موجود في كل مجال، وقد حدث الكثير من السطو على الورق. قبل سنوات قام الباحث رشيد الخيون برصد عمليات سطو مخجلة على كتابات في التراث، كانت تشمل الكتب وصفحات التراث في الصحف اليومية، وقبل ذلك أعلن في المملكة السعودية عن تشكيل مؤسسة خاصة أرادت رصد كل ما ينشر والتحقق من السرقات الأدبية والفكرية المنتشرة بصورة واسعة في المنطقة العربية، لكننا للأسف لم نسمع شيئاً عن نشاطها حتى الآن.
* كيف يضمن الكاتب حقوقه الفكرية، وهو لم يضمنها حتى مع النشر على الورق؟
ـ في بعض دول الغرب، وأميركا بشكل خاص، بدأت الجهات الرسمية بوضع قوانين خاصة باستخدام الإنترنت، هذه القوانين تجريبية وتتطور مع تطور أعمال الإنترنت وطرق استخدامه، وقد استخدمت الجامعات والنشاط الأكاديمي الفردي الشبكات بشكل واسع لا نظير له، حيث ينشر الأساتذة بحوثهم ورسائلهم الجامعية ومقالات عن أفكارهم الجديدة، بحيث يمكن الطالب في أبعد قرية من الصين قراءة عناوينها ونبذة عن موضوعها ثم نسخها على الورق مقابل مبلغ زهيد.
* لنعد مرة أخرى إلى تجربتك مع النشر على الورق، هل كانت بدون إيجابيات وقد نشر لك اثنا عشر كتاباً؟
ـ قلت إن بداياتها كانت مفيدة، ورغم أنني لا أدعي امتلاكي تجربة كبيرة مع دور النشر، إلاّ ن البدايات كانت سعيدة، بما تنطوي عليه من عناد وإصرار ومساع لا تنتهي لتحقيق النجاح. فقد واجه أول نصّ طويل كتبته الرفض من قبل الدور التي عرضته عليها، أعني مسرحية (هلاك بابل) لأن الرمز واسم بابل كانا يحيلان إلى العراق، ويومها كنت أعيش في بيروت (1975) ودور النشر هناك مهتمة بتقدمية صدام، أو بسوق البيع المزدهر في بغداد، ولقلة خبرتي لم أصدق أن دور النشر التقدمية ترفض نصّاً لأن الرمز في عنوانها وموضوعها قد يربط صدام حسين بالطغاة الذين تعالج المسرحية سلوكهم النفسي تجاه تذمّر المواطنين من أخطائهم!