لم يصح يوما القول ان قضية فلسطين ضاعت في تلابيب السياسات العربية وشعاراتها القومية المجردة منذ قيام دولة اسرائيل والى حين انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة، وليس من دليل على ذلك لدى من يذهب الى القول به. فالراجح عندنا، بقوة الحقائق والوقائع ــ ان العرب ما انصرفوا عن قضية فلسطين منذ داهمها الخطر اليهودي، وخاصة منذ وقع عليها وعليهم بقرار التقسيم ابتداء وبإعلان قيام دولة اسرائيل عليها ثانية.
لقد خاضوا حربا ضدها، عقب قيامها، في عام 1948 وأيا تكن جاهزيتهم القتالية في تلك الحرب ومستوى أداء جيوشهم «جيش الانقاذ« العربي فيها وسقف القرار السياسي لدى نخبهم الحاكمة، فقد كانوا في الخندق الدفاعي الامامي لصد زحف القوى اليهودية المسلحة «قوات الهاجاناه« على المدن والبلدات والقرى. ولولا الجيوش العربية ــ على سوء حالها وضعف تسليحها وقلة اعدادها ــ لزحفت القوى اليهودية تقضم ما تبقى من ارض، وتشرّد من بقي من سكان تلك الارض الاصلييين في ديارهم. وإذا كان ميزان القوى ـــ المختل لصالح «اسرائيل« ــ قد رسم خطوط الهدنة «التي ستوقع اتفاقاتها في عام 1949« على حيز جغرافي يتخطى الحدود التي أقرها قرار التقسيم 181 لتلتهم أراضي تقع في نطاق المساحة الجغرافية التي رصدها القرار إياه لتكون تراب الدولة العربية في فلسطين، فإن تلك الحدود ــ على تواضعها ــ حفظت بعض الارض من الاغتصاب وباتت في حساب الاشياء من مكاسب المشاركة العربية في حرب 1948.
لم تكن قد نشأت، حينها نظم قومية عربية. ومع ذلك فالمساهمة الرسمية العربية في صد التمدد الاسرائيلي في حرب عام 1948 كانت قومية في محتواها ونتائجها. وحين وصلت قوى من الحركة القومية الى السلطة (الناصرية «حزب البعث« في سوريا) حملت الى برنامجها السياسي قضية فلسطين، وأولت قضايا الصراع العربي ــ الاسرائيلي اولوية مركزية في عملها. من ينسى معارك مصر في عام 1959 ومبادرة عبدالناصر برعاية مشروع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 وإطلاقه فكرة القمة العربية للرد على المشروع الاسرائيلي بتحويل مجرى نهر الاردن، ومن ينسى الدعم السياسي واللوجستي الذي لقيته حركة «فتح« و«حركة القوميين العرب« في سوريا بما في ذلك السماح بتدريب الفدائيين على السلاح وتأهيل جيش التحرير الفلسطيني،. الخ؟ من يتجاهل ذلك، يحاول ان يكتب تاريخا ليس من التاريخ.
ما انصرف العرب عن قضية فلسطين، إذن، حتى يقال ان انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة ــ في فجر اليوم الاول من عام 1956 إنما أتى للرد على التجاهل العربي لمحنة الشعب الفلسطيني، او تعبيرا عن إرادة هذا الشعب إمساك قضيته ومصيره بيده، وليس من الصواب ان يقرأ الامر كذلك. لكن انطلاقة الثورة في ذلك الوقت حدث سياسي وتاريخي غير عادي، ويمكن قراءة دلالاته الكبيرة بعيدا عن فرضية «اليأس الفلسطيني« من الحل العربي، بل قل قريبا جدا من فرضية التنامي المتزايد لتلازم الوطني والقومي في الوعي السياسي الفلسطيني.
لم تبدأ الوطنية الفلسطينية في فاتح يناير 1965 مع انطلاق الثورة المسلحة، بدأت منذ ثورة البُراق وانتفاضة 1936 -1939 مرورا بقيادة الحاج أمين الحسيني ثم أحمد الشقيري وصولا الى سيطرة الفصائل الفدائية على منظمة التحرير في عام 1969 حتى حركة «فتح« ــ التي أطلقت الثورة ــ قامت قبل ثورتها بثمانية اعوام في مناخ صعود الفكرة الوطنية الفلسطينية. وإذا كان سائغا ان يقال ان الثورة اطلقت تلك الوطنية من عقالها وذهبت بها الى المدى الابعد، فليس يسوغ القول انها اطلقتها من حاضنة عربية كانت تضرب قيدا على انبثاقها. فالحاضنة العربية تلك هي نفسها التي أطلقت فكرة منظمة التحرير ورعت ميلادها عاما قبل انطلاقة الثورة.
قد يكون مرد الالتباس لدى القائلين بتمرد الوطنية الفلسطينية على الحاضنة العربية الى أن قادة حزب الوطنية تلك ــ نعني حركة «فتح« ــ جاؤوا من ينابيع فكرية وسياسية غير قومية (ياسر عرفات وأبو جهاد «من الاخوان المسلمين« وخالد الحسيني من «حزب التحرير«) وهذا صحيح. لكن «فتح« لم تكن تنظيما اسلاميا، فقد كان فيها قوميون «ناجي علوش« وماركسيون «منير شفيق« وعلمانيون «وهو الكثرة الكاثرة« ومسيحيون، لكن الذي ينساه القائلون بذلك ان فصائل الثورة الاخرى «الجبهة الشعبية« و«الجبهة الديمقراطية« والجبهة الشعبية ــ القيادة العامة« و«جبهة التحرير الفلسطينية« «جبهة التحرير العربية« و«جبهة النضال الشعبي« و«منظمة الصاعقة« أتوا الى تجربة الثورة ــ شركاء مع «فتح« فيها ــ من مصادر فكرية وسياسية قومية: ناصرية ــ تحديدا ــ وبعثية، وما كانت فكرتهم الوطنية الفلسطينية لتنمو على حساب فكرتهم العربية.
كما قد يكون مرد ذلك الالتباس الى ان عبدالناصر نظر بحذر الى «فتح« والثورة المسلحة مخافة أمرين: ان تحدث تأثيرا سلبيا في مجرى برنامجه القومي حيال قضية فلسطين والصراع العربي ــ الاسرائيلي فتفرض عليه جدول اعمال لا يجد نفسه مستعدا له (مثل فتح الباب أمام حرب مبكرة مع اسرائيل) أو ان تتحول الى ورقة ضغط سياسية عليه لدى غريمه: نظام الانفصال في سوريا، حيث كان ايديولوجيوه ــ من أمثال أكرم الحوراني ــ لا يوفرون فرصة لابتزازه «اي عبدالناصر« باسم تأخره في فتح المعركة مع «اسرائيل« ودعم مشروع الثورة في فلسطين ومن الحدود. وهذا ايضا صحيح. لكن التطورات الجديدة وخاصة هزيمة 67 بددت سوء التفاهم بين عبدالناصر و«فتح«: أدرك الحاجة الى العمل الفدائي الفلسطيني لارهاق «اسرائيل« فأطلقه ودعمه بالمال والسلاح، ومكّن فصائل الثورة من الامساك بمنظمة التحرير. وحين تعرضت الاخيرة للتصفية المادية في الاردن، تدخل لانقاذها في الساعات الاخيرة من حياته. كما أدركت الثورة حاجتها الى عبدالناصر والحاضنة العربية في امتداد إدراكها لاستحالة نجاح مشروعها الوطني بمعزل عن تلك الحاضنة، فسعت ــ منذ ذلك الحين ــ في البحث لها عن شرعية وانتماء في النظام العربي الى ان احتازته في قمة الرباط لعام 1974.
إذا كان من عامل اطلق الوطنية الفلسطينية ــ في صيغتها السياسية والتنظيمية الحديثة ــ من عقالها فهو الاغتصاب الاسرائيلي ومحاولاته تبديد الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني ومحوها. وإذا كان من أهمية لميلادها وصعودها، فهي في صيرورتها فاعلا رئيسيا ــ بل طليعيا ــ في معركة الأمة ضد المشروع اليهودي. لعلها اليوم تنوء بثقل الضغط اليهودي عليها. لكن ذلك نتيجة من نتائج حال الانحسار العربي. وهذا دليل على التلازم بين الوطني والعربي في قضية فلسطين: سرّاء وضرّاء.