يتطلع المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الذين نظّروا للحرب على العراق الى الأمم المتحدة ليس لإخراجهم من وحول هذه الحرب، بل ربما للإجهاز على هذه المنظّمة الدولية، وبالتالي لفرض فراغ دولي يمكّن السلطة الأميركية من فرض سيطرتها المطلقة على العالم. أحد المداخل الى هذا الهدف هو ملف قضية النفط مقابل الغذاء.
فقد طلبت مجموعة المحافظين الجدد من رجلها في العراق أحمد الجلبي بعد تعيين الخبير المالي البريطاني كلو ـ هانكس ـ دريلسام رئيساً للجنة المالية في مجلس الحكم العراقي، تكليفه بمهمة التحقيق في الاتهامات الموجهة الى النظام العراقي السابق بتقديم رشاوى نفطية لتسهيل بيع كميات كبيرة من النفط خارج المراقبة الدولية التي كانت تقوم بها الأمم المتحدة.
ويشمل ملف الاتهامات 265 شخصية من 52 دولة بما فيها دول أعضاء في مجلس الأمن. ومن الشخصيات المتهمة والتي تؤكد عدم صحة هذه الاتهامات، رئيسة جمهورية اندونيسيا مياغاواتي سوكارنو بوتري، ووزير الداخلية الفرنسي السابق شارل باسكوا، وابن الأمين العام للأمم المتحدة كوجو عنان، وحتّى رئيس برنامج النفط مقابل الغذاء في الأمم المتحدة نفسه بانون سيفان.
والتقرير الذي أعدّه دريلسام ـ كان شريكاً للجلبي في أعماله المصرفية غير المشروعة في بيروت (بنك مبكو) وفي عمان (بنك البتراء) ـ يتهم فرنسا وروسيا بأنهما عارضتا الحرب على العراق تحت ضغط شخصيات فرنسية وروسية مستفيدة من الرشاوى النفطية التي كان يغدقها عليها النظام العراقي السابق.
ويدّعي التقرير أيضاً ان صدام حسين حقق من وراء الصفقات النفطية التي بلغت قيمتها 67 مليار دولار دخلاً غير شرعي بقيمة 10.1 مليارات دولار أنفق بعضها على الرشاوى، وأنفق البعض الآخر على شراء مواد كانت محظّرة عليه بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء. وان هذه الرشاوى وفّرت له قوى سياسية عربية ودولية معارضة للحرب، كما وفّرت له إمكانات لاختراق الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق منذ عام 1990.
ويذهب التقرير الى أكثر من ذلك، فيتهم الأمم المتحدة نفسها بأنها كانت تحقق مليار دولار سنوياً كعائدات مقابل إدارتها وإشرافها على البرنامج الذي بدأ العمل به في عام 1995، وانها من أجل ذلك كانت تغضّ الطرف عن التجاوزات وعن الرشاوى رغم علمها بها حتى لا تخسر هذه العائدات.
ومن خلال هذا التقرير، توجّه الاتهامات بالفساد ليس الى النظام العراقي السابق وحده، بل الى الأجهزة الرسمية في الأمم المتحدة، والى عدد من كبار العاملين فيها، الأمر الذي يطعن في صدقيتها، وبالتالي في صدقية المواقف التي اتخذتها ضدّ الحرب. فالتقرير يتهم الأمم المتحدة التي كانت تقبض ثمن النفط وتدفع ثمن الغذاء والدواء، بأنها كانت تحقق مكاسب غير شرعية أثناء عمليتي القبض والدفع معاً!!
كما يتهم الدول التي عارضت الحرب، وخاصة روسيا وألمانيا وفرنسا التي تبيع الغذاء والدواء للعراق مقابل النفط بأنها لم تعارض الحرب لأسباب تتعلق بالقانون الدولي أو بالأخلاق الانسانية، انما من أجل استمرار تلك الصفقات التي بلغت قيمتها عدة مليارات من الدولارات. من أجل ذلك تُعتبر هذه القضية فضيحة القرن ليس فقط بسبب حجمها المالي، انما بسبب الإنعكاسات السياسية التي ينتظر ان تترتب عليها.
لقد سارعت الأمم المتحدة الى تشكيل لجنة تحقيق خاصة برئاسة بول فولكر وهو رئيس سابق للبنك المركزي الأميركي لردّ التهم الموجّهة اليها، غير ان الكونغرس الأميركي شكّل هو أيضاً ثلاث لجان أخرى للتحقيق في هذه القضية، إضافة الى لجنة رابعة شكّلها الحاكم العسكري للعراق بول بريمر.
من الطبيعي ان تكون التحقيقات الأميركية اتهامية، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون التحقيق الدولي دفاعياً، ولكن هل من الطبيعي ان يكون الدور العربي كالعادة غائباً أو مغيّباً!!