مليار ومائتا مليون مسلم يتبادلون بمناسبة العيد دعاء بالخير واستبعاداً للشر، فكل عام وأنتم بخير. والخير أننا ما نزال بحمد الله نمتلك هذه (الخصوصية) الثقافية التي تجعل يوم الجمعة يوم العروبة، ومعناها الدلالي (الرحمة) كما يذكر القدامى، ومعناها الوظيفي الاجتماع والجَمعة (بفتح الجيم أو بضمها) . ويقال إن أول من جمع إليها هو كعب بن وائل قبل أن يؤمر بها المسلمون، وإن أهل يثرب أرادوها تميزاً وخصوصية حين رأوا اليهود يختارون السبت والنصارى يختارون الأحد. وقد ترسخت خصوصية الجمعة حين أمر بها التنزيل وباتت منتدى أسبوعياً يلتقي فيه الرجال والنساء يذكرون الله ويصلون له ركعتين ويخطب فيهم الإمام بما يشبه البيان الأسبوعي حول شؤون حياتهم. وقد أمر الرسول الأعظم بخصوصية أخرى للمسلمين في يومين جعلهما عيدين للأمة قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله خيراً منهما: يوم النحر ويوم الفطر). كما أقر في الحج خصوصية رمزية ثقافية كبرى في الوقوف على عرفة، حتى إنه اختصر تعريف الحج بأنه عرفة حيث الاجتماع السنوي الذي يتوحد فيه المسلمون في لباس الإحرام، وفي التوجه إلى الله. وقد ألهم هذا الاجتماع السنوي الضخم المفكر الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي فكرة المؤتمر الإسلامي المتخيل في كتابه (أم القرى).
وتشكل الخصوصيات الثقافية في الأعياد ملامح هوية الأمة، وتعزز شعورها الوجداني بالانتماء، وهذا ما ينبغي الحفاظ عليه، والتصدي لكل دعوات إلغاء الخصوصيات بذريعة الاندماج في العولمة الثقافية التي جعلت بعض العرب والمسلمين يحتفلون بأعياد الآخرين، ويعتبرون أعيادهم يوم عطلة وإجازة فقط دون تحقيق المقاصد منها في التواصل والتعايد والتراحم.
والمؤسف أن ما نردده من تحية العيد بالخير في كل عام يختلف مع ما نسعى إليه في مستقبل أمتنا. فكيف سنضمن الخير لأبنائنا وأحفادنا إن لم نضمن لهم الاستقلال والسيادة. وليس بوسع أحد اليوم أن يتعامى عن الخطر المحدق بالأمة من كل صوب. وهو أشد وأعتى من الأخطار التي تعرضت لها الأمة في مطلع القرن العشرين، فلم تكن البشرية قد أنجزت قبل مائة عام هذه الأسلحة الهائلة القادرة على تدمير الحياة، ولم يكن العالم كله في قبضة واحدة، بل إن أميركا الناهضة إلى دور عالمي آنذاك كانت تبشر بحقوق الإنسان، وكان العرب والمسلمون يتفاءلون بالوعد الأميركي الذي تحول في القرن الحادي والعشرين إلى وعيد.
والعرب يستقبلون اليوم العيد وهم قلقون بين الوعد والوعيد. فأما الوعد فقد جدده الرئيس بوش حين أعلن أنه سيتفرغ هذا العام لإحلال السلام، ونحن سنتفاءل بهذا الوعد ونرجو أن تجد القيادة الفلسطينية الجديدة شركاء حقيقيين للسلام، وألا يعطل الصهاينة المتطرفون ما يمكن أن يتحقق من تفاهم حول المستقبل. فقد نشط سريعاً دور متصاعد للصهيونية الدينية يشكك ويحذر من اقتلاع اليهود من أرضهم (والطريف أن بعض المستوطنات التي يتشبث بها المتدينون ويعاني شارون مشكلة في إخلائها لايزيد عدد سكانها على أحد عشر شخصاً قيل إنهم سيدعمون بثمانين مستوطناً إيديولوجياً)، فما الذي سيفعله الإيديولوجيون إذن مع استحقاقات السلام التي توجب الانسحاب الكامل إلى حدود 4 يونيو 1967 كما تقضي قرارات الشرعية الدولية؟ وكيف يتفهم القادة الأميركيون مشكلة بضع عشرات من المستوطنين يقتلعون من أرضهم كما يقولون، ولا يتفهمون مشكلة ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين أقرت لهم الشرعية الدولية حقهم في العودة، وقد تم تهجيرهم واقتلاعهم من أرضهم بالقوة العسكرية على مرأى العالم ومسمعه، ولا أحد في العالم اليوم غير الصهاينة ينكر عليهم هذا الحق في العودة إلى وطنهم؟ .
ونتفاءل بوعد الرئيس بوش للعراق بالحرية والاستقلال، ونرجو أن تصل الانتخابات في العراق إلى بر الأمان، فتؤسس عراقاً جديداً يتمكن فيه الشعب العراقي من تحقيق سيادته الكاملة، حيث الوعد الأميركي بالانسحاب. كما نود أن يحقق الرئيس بوش وعده بإحلال السلام العادل والشامل بين العرب وإسرائيل وأن تعود الولايات المتحدة إلى دور الراعي والوسيط النزيه لا أن تصبح طرفاً يدعم أحد المتنازعين على حساب الطرف الثاني.
ونحن نقدم مع أشقائنا العرب في كل يوم ما يؤكد للولايات المتحدة مصداقية توجهنا للسلام، ولكنا لا نجد صدى لدعواتنا، بل المؤسف أننا نجد التهديد والوعيد، وقد كان من حلقاته الجديدة تلك الحملة الإعلامية المسعورة للتشويش على زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو. والغريب في هذه الحملة أنها تكشف اختلالاً مريعاً فيما وصل إليه الحال الدولي. فهل أصبح من حق إسرائيل أن ترسم للآخرين حدود صداقاتهم وعلاقاتهم الدولية؟. والعجيب في هذه الحملة أن إسرائيل اخترعت قصة بيع أسلحة وصواريخ روسية لسوريا (رغم نفي البلدين لهذه الصفقة المتخيلة) كي تثير اللوبي الصهيوني العالمي ضد أي دولة تقيم علاقات حسنة ومتينة مع سوريا. ولكن إسرائيل تتصرف وكأنها صدقت الكذبة التي اخترعتها. وقد أثارتني تفاصيل الحملة حيث وجدت من خلالها هشاشة القوة التي تدعيها إسرائيل. وهذه التفاصيل جديرة بأن يتأملها العرب برؤية مستقبلية واعية. فقد أثيرت إسرائيل من مجرد قصة تسلح وهمية، وبدا كل غرور قوتها مزعزعاً أمام وهم احتمال مفبرك بتبدل صغير في موازين القوى في المنطقة. ومن يقرأ الصحافة الإسرائيلية في الأسبوع الماضي يفاجأ بهشاشة الثقة في هذه الدولة الأقوى عسكرياً في الشرق الأوسط. لقد جن جنون القوم، فوضعوا السيناريوهات، ورسموا الاحتمالات، وقيل إن شارون أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى بوتين (وهذا إن صح، فهو من عجائب الدنيا ومفارقات الأزمان )، وقد وصف المحلل الإسرائيلي أمير أورون الوضع (في مقالة له في معاريف) بصيغة مصغرة لما فعل عبد الناصر يوم زار بريجينيف في نهاية حرب الاستنزاف. وقد تعامى المحلل عن كل التغيرات الدولية التي حدثت بعد خمسة وثلاثين عاماً، محذراً من قيام تحالف روسي سوري جديد.
والطريف أن الإسرائيليين الذين ارتعدت فرائصهم من أكذوبة اخترعوها هم، باتوا يطمنئون أنفسهم بأن فريق الخارجية الأميركية الجديد (بقيادة كونداليزا رايس والمرشح لمساعدتها روبرت زليك والسفير نيكولاس بيرنز) سيكون أكثر حزماً مع سوريا وأكثر وداً مع إسرائيل من الثلاثي المنصرف باول وأرميتاج وغروسمان، الذين لم ينالوا الرضا الصهيوني على ما يبدو رغم كل ما قدموا من إخلاص لمجرد أنهم لم يورطوا الإدارة الأميركية في حرب ضد سوريا، ولأنهم تجاوبوا مع دعوة سورية إلى الحوار. وقد حذر المحللون الإسرائيليون من ثغرة تخترق الاستراتيجية الإسرائيلية وتخيلوا قدرة نووية إيرانية ستمد سوريا، ودرسوا احتمال أن تصل الصوايخ التي يمكن أن تحمل باليد إلى حزب الله، واحتمال أن تتحول الصواريخ التي تحتاج إلى آليات خفيفة إلى يدوية. والعجيب حقاً أنهم يصنعون الأكذوبة ويصدقونها. ونحن كعرب من المحيط إلى الخليج لدينا مثل يقول" صيت غنى ولا صيت فقر"، فليت لدينا حقاً صواريخ تمكننا من ردع من يعتدي علينا. ولكننا بشهادة الرئيس بوش ضعفاء جداً كما وصفنا. حتى إن المحللين الإسرائيليين يقولون صباح مساء إن سوريا ضعيفة جداً، ولكنهم يتخيلونها في الوقت نفسه قوة عظمى. ونحن في حقيقة الأمر لسنا ضعفاء إلى الحد الذي يتوهمون، ولكن قوتنا وقوة أمتنا العسكرية باتت ضعيفة حقاً أمام ما يمتلكه الإسرائيليون من أسلحة نووية قادرة على تدمير قارة بحجم أوروبا. وقوتنا في سوريا ليست عسكرية بالمعايير التقنية الحديثة بل هي قوة الشعب وقوة إيمانه بحقه في الدفاع عن نفسه وعن أرضه وكرامته حين يتعرض للعدوان. وقد أعلنت سوريا أنها اختارت طريق السلام واستبعدت طريق الحروب، وهي تدعو صباح مساء إلى إحلال السلام في المنطقة كلها، ولكنها لا تسمع صدى، ولا تجد شريكاً. ونستغرب كيف يصمت العالم على هذا النحو من التهديد والإرهاب الإعلامي اليومي لشعبنا الذي اختار السلام.