ترى ماذا ينقص المتصدرين للإفتاء في عالمنا الإسلامي والعربي أمام السيل المتدفق من أسئلة السائلين ومشاكل المهتمين بجزئيات الدين من الذين يحرصون على معرفة حكم قتل الذبابة في الحرم المكي؟
من الملاحظ أن معظم الأجوبة التي يتلقاها السائلون عبارة عن قوالب جاهزة وجامدة لا تختلف عن غيرها مع مرور الزمن عليها وتغير أحوال البشر وفقا لتغير ظروف الحياة في كل مناحيها.
والذي يجرؤ لا أقول على الفتوى حتى لا ينطبق عليه القول المأثور "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" وإنما على الخروج من ذلك الصندوق المقفل تناله ألسنة حادة من القيل والقال الذي لا يصمت إلا بالطعن والنيل في الأشخاص والأعراض.
وهذا الداء ليس جديدا وإنما يتجدد كلما حاول مجتهد تنزيل الفتوى على واقع العصر وهو أمر مختلف عن لوي النصوص لكي تتماشى مع مصلحة فلان على حساب مصلحة علان. فإنزال الفتوى يعني المرور بعملية تحليل دقيقة قبل الشروع في إصدار الحكم النهائي على واقعة معينة أو حالة قد تكون مستثناة عن القواعد العامة للشريعة وذلك للخروج من دائرة الحرج الديني إلى ممارسة الحياة بعيدة عن دائرة العقد التي تحيط ببعض الأفراد نتيجة التعامل مع موجات من التشدد في غير مكانها تحت إطار التدين، وعدم التسيب ولوضع الفتوى في مكانها الصحيح مع الشخص المناسب، فإنه بالإضافة إلى معرفة المفتي المعمقة والمتبحرة لعلوم الشريعة التي تؤهله لتولي زمام قيادة رقاب الناس إلى الجنة، فمن الضرورة أيضا اطلاعه على واقع المستفتين وظروفهم المختلفة وعدم إخفاء معلومة معينة، قد تكون لها دور في حدوث الخطأ، ليس في الفتوى كحكم عام، وإنما أثناء التطبيق على حركة السائل في المجتمع. إن دقة الفتوى وعدم تناقضها مع واقع حال السائل، له ارتباط قوي بدقة وصف تفاصيل الأمر الذي يتم استصدار الحكم الشرعي له من خلال إلقاء السؤال المباشر.
إننا لا نتحدث عن الحرام البين والحلال البين، فهذا لا يحتاج إلى فتوى المفتي لأن حكم الشرع صريح وواضح في كل جزئياته. وإنما التحدي الحقيقي الذي يواجه المفتي يكمن في المنطقة الوسطى والتي نص عليها: "وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس". فهنا يكمن مركز الاختبار والاجتهاد الذي يأخذ وقتا كثيرا للقول الفصل.
والأصعب من إصدار الحكم الفوري لسؤال طيار هو كيفية إبعاد المستفتي عن دائرة الشبهات وإدخاله في دائرة الحلال حتى يطمئن من يزعجه الوسواس بأنه على الطريق المستقيم. السائل لا يلجأ إلى المفتي إلا عندما يجد بأن أمرا ما يدور في داخله كالمرجل، ويريد أن يتخلص منه بحكم شرعي من شخص يثق بفتواه. ولو لم تكن الحاجة ملحة بالنسبة إلى المحتاج إلى زرع اليقين في قلبه لما كابد نفسه عناء السؤال. وقد يغنيه كتاب مبسط في الفقه وكفى، إلا أن الأمر في الفتوى لا يتعلق بقراءة كتاب أو أكثر، وإلا رجعنا إلى نفس الصندوق الذي لا تتجدد مفاتيحه ولا محتواه.
فالمفتي في هذه الحالة هو من يضيف جديدا إلى محتويات الصندوق القديم والمغلق على بعض العقول التي تأبى الخروج من إطاره خشية الوقوع في الخطأ المعفي عنه من قبل الرب سبحانه، وإن كان السائل في بعض أحواله يكون أشد على المفتي من خالقه، وهو سبب مباشر لضعف الفتوى وعدم محاولة التجديد فيها، والإصرار على الالتزام بما في الصندوق. فسهام السائل الذي لا يعجبه العجب أحيانا قد تكون أكثر إيلاما فيما لو تجرأ المفتي بقول جديد.