عقدت كافة أحزاب المعارضة المصرية مؤتمرا مشتركا في مدينة المنصورة الواقعة على الدلتا، الأسبوع الماضي. ولكن للأسف، لم يتجاوز عدد الحضور سوى 400 شخص لا أكثر. وغاب عن ذلك المؤتمر اثنان مما يسمى بأحزاب المعارضة. سارع منظمو المؤتمر للإلقاء باللائمة على قوانين الطوارئ، التي تجيز للحكومة المصرية، فعل ما تبتغيه وتمليه عليها إرادتها المطلقة، دونما تقيد بالدستور أو القانون. غير أن اللوم على ذلك الغياب، يقع في الواقع على غياب تلك الأحزاب المعارضة، سواء في مصر أو في أي دولة عربية أخرى، ويعود إلى لا مبالاة شعوب المنطقة إزاء الحركات والأحزاب المعارضة، وإلى إفلاس ما يسمى بأحزاب المعارضة في المقام الأول.
دعنا نواجه هذه الحقيقة هنا. فاللامبالاة هي الحالة المفضلة لدى الشعوب العربية، لكونها لا تأبه فحسب. كما أنها تؤمن باليوم واللحظة الآنية، وليس بالغد. وهي بذلك تعيش اللحظة لا أكثر. وكما جرت العادة، فإن هناك شخصا ما تلقى عليه مسؤولية الحنث بالوعود وتخييب الآمال، وخواء البرامج وانهزام الخطط والطموحات. وفي كافة الدول العربية تقريبا، يكاد يكون قانون الطوارئ، شماعة تعلق عليها خيبة الأحزاب المعارضة. غير أن هذه الظاهرة، تغوص إلى أبعد مما يبدو، إذ أن لها جذورا ضاربة في العقل العربي نفسه. فمتى كانت الوعود وعودا في هذا العقل؟ وهناك دائما خطة أخرى وراء الأخرى، بينما لا تشير عبارة "إن شاء الله" الشائعة الاستخدام، إلى معناها ومدلولها الديني، بقدر ما هي تأكيد على نية مبيتة سلفا بحنث الوعود وعدم الوفاء بها.
مصداقا لهذا، هل يذكر أحدنا عدد المرات، التي أجرينا فيها نقاشا محموما ومستفيضا حول أمر أو مشروع أو فكرة أو خطة ما، وارتفع "ترمومتر" الحماس لها أثناء التقدم أكثر فأكثر في المناقشة، ورسمت الخطط تلو الأخرى بقصد المتابعة والتنفيذ، ثم تمر الأيام والشهور والأسابيع، وبعد ذلك يسود الصمت المطلق عنها، وكأن شيئا مما قيل لم يقل البتة؟! ما من رجل أعمال أجنبي واحد تعاملت معه، إلا ويؤكد لك أن مثل هذا السلوك هو سلوك متكرر، ويمارسه العرب من المحيط إلى الخليج، دونما استثناء. لك أن تأخذ مثالا على هذا، المؤتمر الذي عقد مؤخرا في أبوظبي. فهناك في ذاك المؤتمر، فعلت اللامبالاة فعلها بتحويل سلوك الكثير من المتحدثين إلى شاكلة "يا دنيا ما فيك إلا أنا"، كناية عن تمجيد المتحدث لذاته وإعلائه من شأنها، في مقابل تصغير الآخرين والتقليل من شأنهم. وعلى الرغم من أنه تم إبلاغ كافة المتحدثين في ذلك المؤتمر قبل عدة شهور، بأن المدة المسموح بها للحديث والمداخلات لا تزيد على 20 دقيقة فحسب –وهي نفسها مدة طويلة - علمت أن الكثير من المتحدثين قد "سرح ومرح" إلى ما شاء الله، وأن المتحدثين اللذين التزما بذلك القرار واحترماه، هما المتحدثان الرئيسيان، الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشدآل مكتوم ولي عهد دبي، وسمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الإعلام والثقافة . وللأمانة فقد التزم مثلهما القليل جدا من المتحدثين الآخرين، حسب علمي.
بل إن أحد المتحدثين، ووجه بتململ واعتراضات الحضور في القاعة، إثر تجاوزه مدة العشرين دقيقة المقررة، فما كان منه إلا أن رد على تلك الململة والاحتجاجات بقوله، إنه ما يزال أمامه ساعة كاملة! وما هذا السلوك سوى أحد تجليات اللامبالاة الضاربة الجذور. وكان الأحرى أن تطبق في ذلك المؤتمر، القاعدة الصحفية الذهبية القائلة إنه "إن لم يكن بوسعك قول ما تريد في الفقرة الأولى من حديثك أو فيما يقل عن الخمس دقائق الأولى، فإن ذلك يعني أنه ليس لديك ما تود أِن تقوله أصلا".
من هنا نعود إلى أحزاب المعارضة. فإن كان كل ما لديك أن تقدمه، هو طرح نفسك على أنك بديل يجب أن يقابل بالفتور واللامبالاة، وإن كان كل ما بوسعك تقديمه لشعبك هو العجز والعدم، بسبب أن الحكومة المصرية أو أي حكومة عربية أخرى، أيا كانت، تكمم فمك وتحرمك من أن تقول ما تود، فلما تطلق على نفسك لقب "حزب سياسي" أصلا، أو بالأحرى لما أنت موجود من الأساس؟ فما نعلمه عن الحزب السياسي المعارض، هو أنه ينظم ويتحدث ويعبئ الجماهير ويبتكر أدوات ووسائل عمله السياسي. والمعلوم عن الحزب المعارض، أنه يجهر بصوته عاليا، كي تسمعه الجماهير.
ويدرك مثل هذا الحزب كيف يحول الضغوط المفروضة والممارسة عليه من قبل الأنظمة، إلى أداة للإقناع. والشيء نفسه ينطبق على الجماهير بنفس القدر. فلا خيار للشعوب الكارهة لحكوماتها، سوى دعم أحزاب المعارضة، فيما لو أوضحت تلك الأحزاب رسالتها وبينت للناس ما تعارضه تحديدا، وما هو البديل المقنع الذي تقدمه لها، مقابل تلك الأنظمة المرفوضة.
وفي مصر ليس هناك فارق بين أحزاب المعارضة والحكومة على حد علمي. فكما هو الحال في أحزاب الحكومة، نجد أمثلة لأحزاب في المعارضة، تتقلد فيها منصب رئاسة الحزب، شخصيات مؤبدة وخالدة مدى الدهر! والذي يحدث هو أنه ما أن تشرع الأحزاب هذه في معارضة إعادة انتخاب أو تنصيب رئيس للبلاد، ظل محتفظا بذلك المنصب لمدة 24 سنة، وتلتفت إلى داخلها وواقع تركيبتها القيادية، حتى تفاجأ بأن قيادتها نفسها، ظلت في منصب رئاسة الحزب، 24 عاما. فيا للسخرية والمفارقة! وعليه، ما لم تقدم أحزاب المعارضة نفسها القدوة والمثل، وما لم تشجع داخل صفوفها نفسها ضرورة تجديد وتغيير القيادات، وحقن أحزابها السقيمة المفلسة، بدماء التجديد والشباب، فإن بوسعها أن تعقد ما شاءت من مؤتمرات، لن يحضرها أحد.
وإن شئت مثالا آخر، فلك أن تنظر إلى واقع أحزاب المعارضة في المملكة العربية السعودية. الذي يمكن قوله هنا، إن البرنامج الذي يروج له ويقاتل من أجله أسامة بن لادن، لهو أشد محافظة بما لا يقاس إلى البرنامج الحالي الذي يطبقه النظام الحاكم في المملكة. وإن كان الأمر كذلك، فكيف للمجتمع السعودي بملايينه من الشباب رجالا ونساء من المتطلعين إلى المزيد من الحرية والانفتاح وحقوق التنقل والسفر، أن يحقق حلمه في أن يتمتع بحياة طبيعية، تتاح له فيها وسائل الترفيه البسيط العادي، مثل أن يجلس في مقهى دون أن تضرب حوله لافتات المنع، وأن تقود المرأة السيارة دون موانع أو قيودِ، وأن يتزوج المرء بمحض إرادته وحريته، وأن يتمتع بحقوق العمل كاملة .... إلى آخره في ظل البرنامج المعارض الذي أشرنا إليه آنفا؟
أو فلنعد طرح السؤال بعبارة أخرى: كيف لهذا المجتمع أن يدعم أصوليا إسلاميا مثل أسامة بن لادن، يرى أن ما يتمتع به الآن السعوديون من حريات وحقوق، يصل إلى مرحلة الترف والبذخ في إطلاق الحريات؟ فلا بديل لهذه المعارضة الأصولية تقدمه للسعوديين، سوى المزيد والمزيد من القيود والممنوعات والمحظورات.
والحال هكذا، فما الغريب في أن تقابل مثل هذه المعارضة بالفتور واللامبالاة؟ فعلى امتداد 12 عاما، لم يكن لأحزاب المعارضة الفاشية الإسلامية سوى شيء واحد فحسب تقدمه للناس، هو القتل والعنف وجز الرؤوس وتقطيع الأوصال والأطراف. وهم لا يمارسون هذه الأفعال البشعة بحق الأجانب، إنما على أخوتهم في الله والعروبة من الجزائريين وغيرهم! وفي الجزائر وحدها، تجاوز عدد ضحايا هذه الممارسات المئة ألف ضحية حتى اليوم. فكيف للمسلمين أن يؤيدوا أحزابا بكل هذا الإجرام والأيادي الملوثة بدماء المسلمين؟ نصيحة أخيرة أسديها لأحزاب المعارضة العربية: إن كنتم تريدون احترام الناس، فإن عليكم أن تظهروا هذا الاحترام من جانبكم لأنفسكم ولجماهيركم أولا. وبالمثل أقول لقادة الإعلام العربي، إنكم لن تثيروا الاهتمام، إلا بقدر قيمة وأهمية ما تقولونه خلال هذه المؤتمرات.