لندن من عمار الجندي: حين نزع المفوض الفلسطيني في لندن، عفيف صافية، قبل اسابيع الميكرفون عن ياقته وخرج من استوديو برنامج «نيوز نايت» (أنباء الليلة) الشهير الذي تبثه القناة الثانية التابعة لهيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) قائلاً «لقد نصبتم لي كميناً»، بدا المشهد دراماتيكياً. وربما صُعق كثيرون لرؤية دبلوماسي عرفوه متحدثاً جريئاً لا يخشى مواجهة خصومه في جولات حامية على الهواء مباشرة، يغادر على هذا النحو الصاخب الذي قل نظيره في التلفزيون البريطاني. لكن الارجح ان الحدث لم يُفاجئ المتابعين لتطورات البي بي سي في العامين الاخيرين، لا سيما انها حرصت على التعاطي مع الشأن الفلسطيني باسلوب لا يزعج إسرائيل. ومع ذلك يواصل انصار تل أبيب انتقاد الهيئة بشدة بذريعة انها «منحازة» لمصلحة الفلسطينيين! حاول صافية يومذاك ان يقلب الطاولة على الذين دعوه للتحدث عن الانتخابات الرئاسية الفلسطينية، ثم غيروا رأيهم حالما بدأت الجلسة من دون ان يبلغوه، وباتوا راغبين باستجوابه حول «الارهاب» الفلسطيني! وقال في رسالة احتجاجية وجهها لاحقاً للهيئة إن التقرير الذي بث تمهيداً للجلسة وصف قطاع غزة بـ «المتنازع عليه» بدلاً من تسميته بـ «المحتل»، وتجنب الاشارة الى ان المستوطنات الاسرائيلية فيه غير شرعية وفق القانون الدولي. ومهما يكن من أمر «الكمين» الذي تعرض له صافية على الهواء مباشرة، فإن دلالته تتجاوز «خداع» ممثل فلسطين لتطاول التراجع المطرد في «الحيادية» التي تقول الـ«بي بي سي» انها تلتزمها حيال اخبار بلاده. وهذا التراجع لم يبدأ قبل ايام، وإن كان خطه البياني قد وصل إحدى ذراه الشهر الماضي. فقد انصاعت المؤسسة العريقة لضغوط ناشطين مؤيدين لاسرائيل اغرقوها برسائل الشكوى التي ترسل عادة من الولايات المتحدة خصوصاً، في شكل منظم. وجاء هذا السيل من الشكاوى احتجاجاً على بث رسالة إذاعية لمراسلتها الكندية بربارة بليت اعترفت فيها انها ذرفت دموعاً حين رأت الرئيس ياسر عرفات ينقل في طائرة الهليكوبتر من المقاطعة في رحلته الاخيرة وسط بحر من المودعين. وقفت الـ«بي بي سي» بادئ الامر الى جانب الصحافية فأصدرت بياناً قالت فيه إن قرار المشرفين على برنامج «من مراسلينا» الذي يبثه راديو فور التابع لها، بإذاعة الرسالة كان قراراً سليماً. وعزت ذلك الى ان إحدى غايات البرنامج هي افساح المجال امام المراسلين كي يعبروا عن مشاعرهم الشخصية إزاء موضوع ما. لكن، في غضون بضعة ايام تم تسريب نبأ الى صحيفة «الديلي تلغراف» المعروفة بولائها لاسرائيل، مفاده ان البي بي سي اعادت النظر بموقفها وباتت متحفظة على قرار بث الرسالة الصوتية التي اقضت مضاجع العشرات من اعداء عرفات. وفيما أُغفل البيان الاول المؤيد للمراسلة من التوقيع، فقد كانت هيلين بودان، وهي مديرة الاخبار في الهيئة، مستعدة لتبرير الموقف الجديد شخصياً من على منبر برنامج آخر معني بمناقشة تعليقات المستمعين على المواد المختلفة التي تبثها البي بي سي. وعودة الهيئة عن موقفها لم تلق ترحيباً في اوساط مجموعة من متابعي برامجها وهي سلوك يدل على انسجامها مع نفسها بصورة مضاعفة. فهي، اولاً، باتت اشد تردداً في تناول الانباء المثيرة للجدل في مرحلة ما بعد تحقيق هاتون الذي «دانها» في يناير (كانون الثاني) 2004 ببث أخبار غير دقيقة عن الدور البريطاني في الحرب على العراق، وذلك في اعقاب «معركة» حامية بينها وبين الحكومة اطاحت اكبر مسؤولين في الـ«بي بي سي». وادت بها هذه «الصدمة» الى التخلف أخيراً عن منافسيها التقليديين في تغطية قصص اخبارية عدة، واعتبرت ايضاً سبباً مباشراً في تجميد برنامج روبرت كيلروي سيلك الحواري حين احتج آلاف المسلمين على مقالة تهجم فيها على الاسلام. واشتملت استجابة الـ«بي بي سي» تلك الادانة على انشاء «مجلس صحافة» برئاسة مارك بايفورد نائب المدير العام، وذلك لمراقبة نوعية كل ما تبثه الهيئة. وتسلم المجلس قبل حوالي شهرين تقريراً وقع في 20 الف صفحة لمالكوم بالين، وهو مستشار تحرير رفيع المستوى، حول تغطية البي بي سي لأنباء الشرق الاوسط. وجدد عقد بالين لسنة ثانية كي يتابع تنفيذ توصياته التي لم يكشف الكثير عنها. والجانب الآخر لانسجام الموقف الجديد مع توجهها العام، هو توفر الادلة على افراطها بما تسميه «الحيادية» في انبائها عن فلسطين، وهي صفة صارت تعني في احيان كثيرة تجاهل الحقائق الفلسطينية. مؤلفو كتاب «أخبار سيئة من اسرائيل»، الذي ضم استطلاعات لرأي عدد كبير من المشاهدين، خلصوا الى ان تلفزيونات الـ«بي بي سي» تعمد في شكل متزايد الى الانحياز للموقف الاسرائيلي من هذا الحدث الفلسطيني او ذاك. كما ساقوا امثلة عدة توضح ان الهيئة تحرص على افراد عبارات «الجريمة» و «القتل» وما شابههما من التعابير القوية لممارسي العنف الفلسطينيين فيما تختار مرادفات أكثر براءة حين تكون آلة الحرب الاسرائيلية هي التي ارتكبت عمليات القتل. إلا ان هذا لا يعني ان الـ«بي بي سي» بكامل محرريها ومراسليها ومنتجيها ... متحيزة لاسرائيل، فملامح وسائل الاعلام بانواعها في اي بلد ديموقراطي لا يمكن ان تُرسم بالاسود والابيض وحدهما بل فيها من يعتبر «متحيزاً» أو «مؤيداً» لهذا الجانب او ذاك. صحيح ان بين «نجومها» جيرمي باكسمان، وهو من ابرز مقدمي ومحاوري نشرة الانباء التلفزيونية الرئيسية (نيوز نايت) التي تبثها الهيئة. وقد تصرف بقسوة بالغة في مقابلة على الهواء اجراها العام الماضي مع عماد مصطفى، وكان وقتذاك سفيراً بالوكالة لدمشق في واشنطن، الامر الذي اعتبره معلق في صحيفة «الغارديان» مثالاً لنزعة العداء للعرب المتفشية في الاعلام الغربي. وهو تصرف بشكل لا يقل استفزازاً مع المحامي الفلسطيني الاصل ميشال عبد المسيح قبل سنوات قليلة في جلسة كان ضيفها الثاني رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق بنيامين نتانياهو. ويذكر أن باكسمان معروف بشراسته كمحاور مما جعل رئيس الوزراء السابق جون ميجور يرفض اجراء مقابلة معه كما تردد. وصحيح ايضاً أن بين العاملين في أعرق هيئات الاذاعة والتلفزيون في العالم، الكثيرين ممن يتمتعون بقدر عال من المهنية والحيادية أمثال بليت و أورلا غيرنغ وهيو سايكس وفيرغيل كين . كل من هؤلاء تعرض لحملة شرسة من انصار اسرائيل، خصوصاً كين صاحب شريط «بانوراما» الوثائقي الذي قامت له قيامة اسرائيل قبل نحو سنتين لانه سلط الضوء على تورط رئيس الحكومة آرييل شارون بمجزرة صبرا وشاتيلا. حتى ان تل ابيب قررت بعد ذلك اعاقة عمل الـ«بي بي سي» بصورة فاعلة اثر بث الشريط، ولا تزال تهاجم باستمرار كل صوت فيها «يتجرأ» على انتقاد الاحتلال وممارساته. ويبدو ان هذه الحملة المتواصلة حققت بعض غاياتها المرجوة. إلا ان متحدثة باسم الـ«بي بي سي» نفت هذه الاتهامات جملة وتفصيلا. وقالت في رد مكتوب على أسئلة «الشرق الاوسط» إن تغطية الهيئة بقنواتها التلفزيونية والاذاعية لأنباء المنطقة «تقوم على اساس قيمها المتعلقة بالدقة والانصاف وعدم التحيز، ونحن نتصدى بثقة لأي ضغوط سياسية قد تبرز نتيجة لتقاريرنا». واضافت «لكننا نعتقد ان من المهم ان نعترف بوقوع اخطاء في التقييم التحريري، كما في حالة تقرير باربارة بليتس في برنامج من مراسلينا». واكدت ان ما قالته مديرة الاخبار في هذا الشأن في وقت لاحق للاعلان عن عودة الهيئة عن قرارها الاول بتأييد المراسلة «لم تصدر استجابة لاي ضغط من جهات خارجية». واكدت المتحدثة ان الـ«بي بي سي» تتعامل مع من تستضيفهم، كصافية الذي لم تذكره بالاسم، وفق «قواعد صارمة لضمان الانصاف وعدم التحيز». ولدى سؤالها عن نسبة تقريبية للرسائل التي تردهم من كل من انصار الحق الفلسطيني ومؤيدي اسرائيل بعد تقرير له صلة بالنزاع، اكتفت بالقول إن «مراسلات من مستمعين ومشاهدين من اصحاب الآراء المختلفة» تأتيها بانتظام اثر اي تقرير عن الشرق الاوسط. ولا ننسى أن الجمهور يلعب دوراً في تحديد توجه اي تلفزيون أو صحيفة أو إذاعة تجارية، ما يعني ان قسطاً من اللوم يقع على انصار الحق الفلسطيني، خصوصاً من العرب والمسلمين، حين ترتفع درجة «الانحياز» للجانب الاسرائيلي. سرعان ما يشمر أنصار اسرائيل عن سواعدهم في بريطانيا وخارجها لإغراق كل من يتجرأ على مهاجمة سياسات تل أبيب. أما العرب والمسلمون، فنادراً ما تثور بهم الحمية وتدفعهم لاسماع صوتهم، الغائب ابداً عن المؤسسات الاعلامية البريطانية.