سؤال محيّر يطرح نفسه عشية الانتخابات العراقية، التي بات يتفق الجميع الآن على أنها ستكون مفصلية في تاريخ العراق: لماذا تبدو الولايات المتحدة مطمئنة الى هذا الحد حيال سلوك وتوجهات شيعة العراق بعد فوزهم المتوقع في الانتخابات ؟. ولماذا سقطت تحذيرات الملك الأردني عبدالله وبعض المسؤولين المصريين والسعوديين من بروز " هلال شيعي " يمتد من طهران الى دمشق وبيروت مروراً ببغداد، على آذان صماء في واشنطن؟
المحذرّون، وهم من حلفاء واشنطن الخلّص، كانوا يتوقعون ان تلقى هذه النصائح المجانية عرفاناً فورياً غير مجاني بالجميل في واشنطن. ولا عجب . فهم في النهاية يقولون لأمريكا ما تعرفه أمريكا وما يجب أن تخشاه:"محور الشر" الإيراني، على وشك أن يحّول بحيرة الشرق الأوسط كله الى "محور شر"، عبر مساعدة حلفائه شيعة العراق على الوصول الى السلطة.
لكن هنا حدثت مفاجأة لم ينتظرها أحد : بدلاً من أن تنشط واشنطن للعمل بهذه النصائح، بادرت على العكس الى إلقاء ثقلها الى جانب شيعة العراق.
وهكذا، بادرت " نيويورك تايمز " ومسؤولون أمريكيون الى التركيز هذا الأسبوع على النقاط الآتية:
1- المخاوف من أن يأخذ حزبا " الدعوة " والمجلس الاعلى للثورة الإسلامية " الشيعيان الاوامر من طهران بعد فوزهما المتوقع في الانتخابات، لا أساس لها.
2- صحيح ان للحزبين روابط تاريخية وشخصية مع إيران وقيادتها، لكن سياستهما وتطلعاتهما وقواعدهما مغروسة بعمق في التراب العراقي. وبالتالي، إذا ما وصلا الى السلطة، سيكون إستقلالهما عن إيران مؤكداً.
3- التهديد الرئيسي للعراق لا يأتي من " آيات الله الإيرانيين المتآمرين "، بل يتأتى من الأقلية السنّية غير الراضية.
هل حسابات واشنطن في محلها ؟. ما العوامل العلنية، او ربما جداول الاعمال السّرية، التي تجعلها مرتاحة الى هذا الحد، فيما حلفاؤها العرب قلقون الى هذا الحد ؟.
يمكن رصد أربعة رهانات كبرى في هذه اللعبة الأمريكية الكبرى مع إيران وشيعة العراق:
الاول، هو الثقة بأن الاحزاب الشيعية العراقية ستكون حقاً عراقية أولاً، عربية ثانياً، وشيعية ثالثاً. وهذا سيتكرّس حين تصل هذه الاحزاب الى السلطة في العراق، فتكتشف أن المصالح الوطنية العراقية متناقضة مع المصالح القومية الفارسية.
ويستند الأمريكيون هنا الى استطلاعات الرأي التي اجروها مؤخراً، والتي بينّت ان غالبية شيعة العراق يرفضون بقوة الحكم الديني على النمط الإيراني، كما يرفضون بقوة اكبر السيطرة الإيرانية على العراق.
كما يستندون أيضاً الى الدراسة المهمة التي وضعها الباحث العراقي البارز فالح عبد الجابر بعنوان : " آيات الله والصوفية والايديولوجيات في العراق " ، والتي وصل فيها إلى الإستنتاج بأن تطوّر الحركة الشيعية في إيران والعراق خلال القرون القليلة الماضية، أظهر وجود سياقين مختلفين بشكل راديكالي لتشكّل المجتمعين.
فالسكان الايرانيون أصبحوا شيعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أعقاب تأسيس السلالة الصفوية العام 1501. ومنذ ذلك الحين أصبح الاسلام الشيعي هو دين الدولة الرسمي (عدا حقبة قصيرة احتل خلالها الافغان السّنة أصفهان العام 1722. وفي المقابل تشكّل المجتمع الشيعي العراقي من اواسط القرن الثامن عشر فما فوق، والسبب كان صعود دور النجف وكربلاء كمعقلين للشيعة في بلد كان من ممتلكات العثمانيين السّنة.
كما أن شيعة العراق لم يفكروا يوما بالانفصال عن العراق والاندماج بإيران. كل ما كانوا يطمحون اليه هو الحصول على مداخل الى السلطة في بغداد، في دولة سيطر على مقاليد الامور فيها السّنة منذ العام 1921 ، هذه الفروقات تشكّل الآن الرهان الأمريكي الاول. ماذا الآن عن الرهانات الثلاثة الباقية الاخرى؟.
تندرج هذه في ما يمكن ان نسميه جيوبوليتيك الاحتلال الأمبراطوري.
فأمريكا، مثلها مثل باقي الامبراطوريات السابقة قبلها، تعمد الى تفضيل فئة في البلد المحتل على الفئات الاخرى، لتشعل بذلك فتيل صراع (او حتى حربا أهلية) يلهي الناس عن الاحتلال.
كتب جيمس فيرون، بروفيسور العلوم السياسية في جامعة ستانفورد : " إن تاريخ الحكم الاستعماري يعلمنا ان النزاع الأهلي يمكن ان ينتج حين تفضلّ القوة المحتلة مجموعات محلية على اخرى وتستخدمها كوسيلة عسكرية. هذه إستراتيجية شائعة بين القوى الامبراطورية ".
هذا التوّجه يشكّل الآن رهان أمريكا الثاني في العراق: تفضيل الأغلبية الشيعية لدفع باقي الأطراف الى مجابهتها، أو على الأقل موازنتها.
اما الرهانان الثاني والثالث فهما : إحياء الصراع التاريخي التقليدي على زعامة الشيعة في العالم بين النجف العربية وقم الفارسية، من خلال دعم آيه الله علي السيستاني ومدرسته الرافضة لمبدأ ولاية الفقيه التي تشكّل أس النظام الإسلامي الإيراني؛ و تحويل الصراع السنّي- الشيعي المتوقع في العراق، الى صراع سنّي - شيعي شامل في كل الشرق الأوسط الكبير.
وهذا يحقق جملة أهداف دفعة واحدة: تحويل حراب المنظمات الأصولية السنّية الإسلامية بعيداً عن صدور الأمريكيين وحلفائهم العرب، وقريباً نحو قلوب الشيعة (والعكس بالعكس)؛ وقلب كل معادلة الصراع الراهن : من صدام حضارات بين الغرب والإسلام، الى صدام اهلي داخل الحضارة الإسلامية نفسها.
هل تمتلك مثل هذه الرهانات مقومات كافية للنجاح ؟.
واشنطن، على الأقل، تبدو واثقة من ذلك. وهي ستكون بالطبع على حق، إذا فجرّت الانتخابات المقبلة الصراع بين الشيعة وباقي الأطراف، وربما أيضاً بين اطراف الشيعة ، الذين يعانون هم أنفسهم من إنقسامات دينية وسياسية وعلمانية حادة.
الأمر الوحيد الذي يمكن ان يطرح هذه الثقة الأمريكية أرضاً، هو بروز زعيم تاريخي عراقي يضع الهوية الوطنية العراقية فوق كل ما عداها من هويات طائفية ومذهبية، ويقترح أسساً جديدة لدولة عراقية حديثة وديمقراطية في آن.
في العراق الآن دور يبحث عن بطل.
وما لم يحدث اللقاء التاريخي بين هذا الدور وذاك البطل، ستواصل الدول العربية التحذير من مخاطر إيران و " القوس الشيعي " في المنطقة، وستواصل الولايات المتحدة الرهان على حرب الجميع ضد الجميع.