يونس دافقير: السعدية تنكب على بيع الجنس بعشر ة دراهم بإحدى الأزقة المظلمة قبل أن تمسك بخناق زبونها لتتهمه بأنه سرق منها "اربعة آلاف ريال".. رشيد مزق جسده بشفرة حلاقة لأنه لم يتقبل أن يصفعه مخمور طلب منه سيجارة .. "كرموصة" هادئ يلاعب "شيفونة" السيلسيون ويتأمل رجله التي اجتزها القطار ذات ليلة مفتقدا صديقه "قزانة" الذي مات تحت ثأثير "الدوليو" .. آخرون يلعنون عناصر الخيرية الذين نغصوا عليهم ليلتهم الهادئة في ضيافة «أميرة الزبالة» ... هم نماذج لحياة خاصة ينسجها ليلا من يسميهم الآخرون "الشمكارة" .. لا يأبهون بالبرد ولا تستهويهم المراكز الإجتماعية ، فالخيرية تعني لهم شيئا آخر ، الحرمان من "التبويقة" .. من روائح "الدوليو" و"السيلسيون".. من شرب حتى الثمالة للكحول الحارق.. من أن يهيموا في الأرض دون خضوع لقواعد «آجي هنا .. سير لهيه» .. ومن أن يحصلوا على أكلهم بعد اجتياز طقوس "التبقشيش" و"الجقير" ...
في الحادية عشرة ليلا وحين يشتد صقيع البرد، لايعود هناك من فارق بين أول الليل وآخره غير بضع مقاهي تتأهب لإغلاق أبوابها .. آخر الفتيات المنفلتات يخضعن للخطوط الحمراء لضوابط الوقت ويعدن في تثاقل إلى بيوتهن .. أخريات ينسجن خيوط نميمة العشق والغيرة في زوايا أحيائهن .. شبان يحتمون من البرد بأبواب العمارات في حاراتهم وهم يدخنون سيجاراتهم الأخيرة أو يستعجلون النوم باستهلاك"الجوانات" .. نساء من بائعات الجسد يصطففن على جنبات الشارع بحثا عن سيارة أجرة أو تصيدا لزبون يبدأن معه مغامرة الليل ... بعد أن يتوارى كل هؤلاء في أفرشتهم الدافئة ، يبقى "الشمكارة" وحدهم شخوص الليل .. تموت حركة أهل النهار ويلوذون للإحتماء بدفء بيوتهم ، يضع المشردون أيديهم على أمكنة الليل وأزمنته، يصارعون برده ويتآلفون مع وحشته ، البعض تكون قد أنهكته "البومبة" (قطعة البلاستيك التي يوضع فيها السيلسيون) والتسكع فيرمي عظامه فوق الرصيف أو في حديقة عمومية أو درج عمارة ، آخرون يريدون السمر رفقة قنينات "لالكول" وتجاذب أحاديث فيها كثير من الحميمية المتبادلة وكثير أيضا من الصخب ، وآخرون وأخريات يبحثون عن الرزق بالبحث في القمامات أو استجداء السكارى أو حتى بيع أجاسدهن المنهكة ، وبين هؤلاء وأولئك تقوم حروب صغيرة وكبيرة من أجل "شمة سيلسيون: أو "بواط السيراج" وحتى من أجل شيء أقل أو أكثر تفاهة .. فاسيون يفضلون حضن "أميرة الزبالة" على الخيرية

هناك وعلى مقربة من هوامش السور المحاذي لميناء الدار البيضاء ، توجد أرض خلاء محاطة بالأسوار وواجهتها الأمامية عارية .. في زواياها تنتشر شاحنات قديمة تهالكت بالصدأ وبالكاد يظهر ما تبقى من إطاراتها بين الأعشاب الكثيفة التي تملأ المكان .. في ركن من هذه الأرض يوجد بناء عشوائي تقطنه "أميرة الزبالة" كما يناديها الناس هناك .. سيدة في منتصف الأربعين من عمرها، يحكى أن زوجها أصابه الجنون فتاه في أرض الله الواسعة .. ومنذ أن بقيت وحيدة ولم يعد جسدها يسعفها في سوق تجارة المتعة ، بدأت تجد في المشردين مصدرا للدخل .. فالوافدون الجدد على عالم«السيلسيون»؛ وجلهم يأتونها من فاس، يلتحقون بمخيم المشردين هذا ريثما يطبعوا بأقدامهم خريطة المدينة في ذاكرتهم .. أمام مدخل هذه "الملجأ" ، تحلق حوالي عشرين مشردا حول عجلة مطاطية كبيرة أشعلوا فيها النار للتدفئة ، يقضون الوقت يتسامرون بشم "السيلسيون" وشرب ما تيسر من الكحول الحارق .. وحده ضجيج أصواتهم المختلطة يدل على وجود حركة في المكان ، أحيانا يرتفع صوتهم بالضحك وأحيانا أخرى ترتفع عقيرة الصراخ حين تتشابك بينهم خيوط اللاتفاهم .. وبينما هم منخرطون في طقسهم الليلي الخاص ، ينتبه أحدهم إلى أضواء منيرة تقترب منهم مصحوبة بصوت محرك .. أثارهم فضول المشهد فظلوا يستطلعون الأمر قبل أن يظهر أن هذا الزائر الغريب يحمل معه ما سيجعلهم يطلقون سيقانهم للريح .. توقفت الحافلة فاعتقدوا في البداية أنها للشرطة ، استبد الخوف ببعضهم ، وفي تلك الأثناء نزل منها حوالي ثمانية أفراد ببنية جسمانية قوية حاولوا طمأنتهم .. المشردون مازالوا متوترين فقاموا من مكانهم وتراجع بعضهم بضعة أمتار .. أخبرهم رئيس الفريق أنهم من الخيرية وجاؤوا ليأخذوهم كي لا يقضون ليلتهم في البرد .. وما أن علموا بهوية زائريهم ، حتى بدأوا في الهرب في اتجاهات مختفلة .. وفي تلك الأثناء بادر أعضاء الهيئة الخيرية إلى تغيير أسلوبهم ، فشرعوا بدورهم في التحرك بسرعة للإمساك بهم قبل أن ينفلتوا من قبضتهم .. وفي سرعة البرق كان المشرودن قد تفرقوا في جنح الظلام .. جعلت وعورة المكان أعضاء الهيئة الخيرية يتابعونهم فقط بمصابيحهم بعد أن لم يــــــتمكنوا من الإمساك إلا بستة منهم .. بعض الذين وقعوا في قبضة أصحاب الخيرية بدأوا يصرخون «اطلق مني .. الله يرحم باباك أنا ما باغيش نمشي معاكم ».. أما آخرون فقد جعلهم تواجدهم في حالة تخدير متقدمة يكتفون بمحاولات يائسة للفكاك من قبضة "معتقليهم" دون جدوى .. وضعوا في الحافلة وانطلقت هذه الأخيرة في اتجاهات أخرى للبحث عن مشردين آخرين .. وفي تلك الأثناء، وحين اطمأن الذين هربوا إلى أن الخطر قد انسحب ، شرعوا يعودون بخطى متثاقلة شديدة الحذرإلى أماكنهم وهم يلعنون أولئك الفضوليين الذين عكروا عليهم صفوة ليلة تمنوا لو قضوها هانئين في ضيافة أميرتهم .. يفضل هؤلاء المشردون أن يبقوا هنا على الذهاب إلى الخيرية أو أي مركز اجتماعي آخر .. برد الخلاء في هذا الفصل الشتوي البارد يجدونه أدفأ من حرارة جدران أي مركز اجتماعي .. ولذلك هم يخافون عناصر الهيئات الخيرية أكثر مما يخافون رجال الشرطة ، فحين تمر "السطافيط" لاتعيرهم أدنى اهتمام ، وحتى حين تعتقلهم في بعض الأحيان سرعان ما يطلق سراحهم بعد يومين أو ثلاثة على الأكثر ، ويكفي أن يقوموا بالمهمة التي أخذوهم من أجلها كتنظيف زنازن مراكز الشرطة أو إجراء بحث روتيني لاستطلاع معلومات ما حول حادث وقع في مكان تواجدهم .. غير أن الخيرية تعني لهم شيئا آخر ، الحرمان من "التبويقة" .. من روائح "الدوليو" و"السيلسيون".. من شرب حتى الثمالة للسائل الكحولي.. من أن يهيموا في الأرض دون خضوع لقواعد الإنضباط .. ومن أن يحصلوا على أكلهم بأسلوب "التبقشيش" و"الجقير" (التسول) وغيرهما دون أن يعملوا في أوراش للإنعاش الوطني مقابل خدمات بسيطة تتمثل في الأكل والشرب والملبس والمبيت .. "كرموصة" وإسمه الحقيقي عبد العزيز واحد من هؤلاء ، مراهق قصير القامة .. سحنته داكنة وشفتاه تخترقهما الشقوق من فرط البرد .. كثرة الأسمال التي يرتديها ليحصل على بعض الحرارة تجعله يبدو مكتنز البنية .. يشد إلى فمه كيسا بلاستيكيا ملأه بالسيلسيون ويحاول بحركة شهيق وزفير متتالية أن يستنشق أكبر قدر ممكن من هذه المادة المخدرة، يقول إن سنه سبع عشرة سنة وجاء إلى هذا المكان منذ سنتين قادما من مدينة خريبكة ، لم يركب حافلة أو على متن القطار ، فقد تسلل إلى عربات السكة الحديدية التي تأتي محملة بالفوسفاط وعبرها وصل إلى الدار البيضاء .. «ما عنديش الواليد ، من نهار عقلت على راسي وأنا ما تنعرف غير الواليدة اللي كنت تنعيش أنا وياها ، ونهار ماتت كانت عندي عشر سنين بقيت وحدي » ، فقد طرده مالك البيت الذي كانت والدته تكتري فيه غرفة صغيرة، وبعد أن أعياه التسكع في مدينة الفوسفاط، فكر في المجيء إلى الدار البيضاء، وبوضع أولى خطواته في المدينة، التقى بزملائه في "البلية" فدلوه على الأميرة ، ومنذ أن استقر به المقام لديها وهو لايغادر هذا "الملجأ" الذي يفضله على الخيرية «أنا مبلي وفي الخيرية تيضربونا وفوق هاد الشي أنا باغي نعيش لراسي بلا ما يحكم في شي حد» يقول وقد تنفس عميقا حتى بدت عيناه وكأنهما تنذران بأنه سيسير نحو الغيبوبة .. يتخذ هؤلاء المشردون من بقايا الشاحنات المتهالكة بيوتا لهم ، يحيطون بقايا الإطارات بالبلاستيك وبأغصان الأشجار ويتكومون بداخلها ، وكي يستقروا في ضيافة الأميرة، يكون لزاما عليهم أن يقدموا لها خدمات متعددة ، فهم يجلبون لها الماء ، ويقومون بتنظيف بيتها وغسل ثيابها ، ويكون عليهم أيضا أن ينتشروا في أزقة المدينة ليجمعوا قارورات الخمر الفارغة وأكياس الخبز الجاف وقطع الكارطون كي تقوم هي ببيعها ، وحين تحضر إحدى اللواتي يشتغلن معها في تجارة بيع الجسد زبونا ليمارس الجنس ، يكون عليهم أن ينتشروا في المكان حيث يتحولون إلى أعين تترصد حركة البوليس، وكل من قد يكون غير مرغوب فيه فيبلغونها بالخبر فورا .. بين هؤلاء المشردين من الذكور توجد أيضا حوالي ثلاثة من الشمكارات ، وكلهن أمهات لأطفال يجهلون من يكون آباؤهم لأنهن حبلن دون أن يعلمن هوية من زرع نطفته في أحشائهن. إحدى هؤلاء النسوة تتوفر على ثلاثة أطفال هم أيضا مشاريع "شمكارة" في المستقبل .. قرابة منتصف الليل ، كانت تلقي بإطلالة بين الفينة والأخرى على الخارج ورجلاها تتمايلان من فرط ما شربته من كحول ، تلقي بنظرة ثم تعود لتعاود الإطلالة من جديد ، بعد نصف ساعة تقريبا ، كان شخص يترنح وهو يدفع عربته يقترب من المكان ، فلقد كانت على موعد معه، وهو "عشيرها" يأتي باستمرار ليمارس معها الجنس ويشم بعض "الدوليو" برفقتها .. ملامح هذا الرجل ليست غريبة عن الحي ، فهو أقدم الشمكارة في حي الصخور السوداء ، يقارب عمره الخمسين سنة ، لايعرف عنه الناس سوى أنه من أصل مراكشي و صغير الحومة وكبيرها يعرفونه ، حين يمر أمامهم يقوم بحركات بهلوانية لإثارة ضحكهم ، ويتوقف أمام البعض ليطرح عليهم لغزا يتحداهم في حله ثم ينسحب ، والسكان من كثرة ما ألفوه لم يعودوا ينهرونه ، ألقى التحية على صديقته وركن عربته جانبا ، ثم غاص برفقتها بين إطارات الشاحنات ، وفي تلك الأثناء ، كان الآخرون يتكلفون بحراسة المكان وكلهم أمل في أن يفوزوا برضى كبيرهم ، فهو وحده يستطيع الحصول على سائل الكحول ، وأعز لحظاتهم يوم يعطيهم بعضا منه ليسكروا به .. معطوبون وموتى وأجساد ممزقة تحت تأثير "الدوليو"..

كلما تقدم الليل ، كلما زاد المشردون في إحساسهم بكونهم أسياد المكان والزمان . ما يشعرهم به الآخرون نهارا من إحساس بالضعف والإحتقار، يتحول لديهم ليلا إلى شراسة واحتفال سلوكي ووجداني لاسترجاع قيمة يجردها منهم الآخرون تحت ضوء الشمس ، وحين تشرع درجات "السيلسيون" أو "الدوليو" في الإرتفاع في نسج مفعولها ، يصبح من المخاطرة مرافقتهم في أماكن خلوتهم ، فعند هذه اللحظة تشرع حسابات قديمة في التصفية فيما بينهم ، ويصبح الجنوح نحو الإعتداء على الغرباء الذين يمرون من المكان مشروعا للحصول على مسروقات .. وعلى عكس هؤلاء الذين يستغلون الليل لتفجير عدوانيتهم ، يقضي مشردون آخرون ليلهم قرب آخر البارات المفتوحة يستجدون السكارى ، درهما أو سيجارة أقصى ما يكون عليه الطلب، وفي لحظات أخرى لاتكون هناك سوى يد ممدودة تترك للآخر حرية المبادرة دون أن تكون مصحوبة بخطاب استجداء، وفي الحالتين معا ، لاتغادر "شيفونة السيلسيون" الأنف أو "كيس الدوليو" الفم إلا لبضع ثوان ثم تعود إليه .. مشهدهم يثير أحيانا شفقة المخمورين فيستفزون فيهم سخاءهم ، وفي أحيان أخرى يثيرون سخريتهم ولامبالاتهم ، وقد يحدث أيضا أن يتصادفوا مع مخمورين عدوانيين فيصبحوا بذلك مادة لضرب مبرح .. أمام أحد "البارات" في زنقة متفرعة عن شارع محمد الخامس قرب فندق لينكولن ، جلس في الرصيف المقابل ثلاثة مشردين أحدهم يتكئ على عكازين يستيعن بهما للوقوف والمشي بعد أن تم بتر رجله اليمنى من مستوى الركبة ، يتكلف الآخرون بالإستجداء بينما ينزوي هو خلف علبة كرطون فوقها علب سجائر يبيعها بالتقسيط ، وضع الشيفونة جانبا وأشعل سيجارة يوصلها إلى فمه بتثاقل ويضخ دخانها في الهواء بتثاقل أكبر وهو يتابع حلقاته تتلاشى ، يشعر بالتعب فيميل ليسند ظهره إلى الحائط دون أن تفارق عيناه حلقات الدخان المتصاعدة كما لو أنه يحاول أن يستعيد فيها ذكرى أيام كان فيها يمشي على قدمين ، أو أنه يقرأ تفاصيل أيام قادمة لايعرف أي الكوارث تخفيها له .. بدا مشهده مؤثرا وهو يحكي تفاصيل ما جرى له بصوت مكسور ترافقه دموع تنزل دون انقطاع من عينيه ، تشعر أثناء الإنصات إليه أنه تعرض للتو لبتر رجله وماتزال آثار الجراح تؤلمه ، فهذا الولد الذي لم يكمل بعد ربيعه العشرين ، جاء إلى الدار البيضاء قادما من مدينة مكناس ، وبدوره لاتخرج حكايته عن باقي وقائع التفكك الأسري ، فبعد أن مات والداه وبقي الأخير بين إخوته العشرة ، أهمله هؤلاء ولم يجد غير الشارع ، وفي كثير من الأحيان قبل أن يأخذ قراره النهائي بالتشرد، كان أخوه الأكبر يجبره على المبيت في الشارع عقابا له ، وهناك بدأ أولى خطواته في إدمان "السيلسيون" «كنت في الأول مع بعض الدراري تنشمو السيراج ، ومن بعد جربنا السيلسيون لأنه تيدوخ اكثر ومن هنا اصبحت مبلي إلى اليوم » .. حين استبد به بطش الإخوة اختار أن يغادر مكناس ، فحل في البداية بالخميسات ومنها إلى تيفلت فالرباط التي قضى عاما تقريبا بين حافلات محطتها الطرقية ، وحين حط رحاله في الدار البيضاء استقر أول مرة في محيط محطة السكة الحديدية قرب الميناء ، وهو المكان الذي سيحتضن مأساته ، ففي إحدى الليالي وبعد أن انتهى من جلسة لشرب الكحول مع زملائه أراد التوجه إلى إحدى حاويات السلعة الفارغة التي يتخذها مرقدا له ، حاول أن يجر قدميه بقوة ، وأمام عينيه ترتسم سحابة من الضباب بعد أن اشتد به التخدير ، فقد كانت تلك الليلة هي المرة الأولى التي يشم فيها "الدوليو" بدل "السيلسيون" ، وهو في شبه غيبوبته سمع منبه القطار قويا قرب أدنيه ، تقدم هربا إلى الأمام ، ومن سوء حظه أو لعنة قدره ، أنه تعثر وبقيت إحدى قدميه فوق السكة فدهس القطار رجله اليمني واجتزها من مكانها .. انغمس تماما في شريط ذكرياته المؤلمة ، ولم يقطع عليه خيط استرجاع هذا الماضي سوى صراخ زميله رشيد ، فقد دخل هذا الأخير في صراع مع أحد السكارى ، تقدم منه يطلب صدقة فنهره ولما رد عليه صفعه الرجل المخمور ، وهنا ثارت ثائرته وأطلق عقيرته للصراخ.. «ضربتيني أنا غادي نوريك شكون أنا»..أزال قميصه وبقي بسرواله الرياضي وحذاء من البلاستيك ، وبحركة خفيفة أخرج شفرة حلاقة من فمه «ماعندي لا أم لاأب وتعديتي علي وأنا مادرت ليك والو .. دابا غادي تشوف اش تنسوى» .. وجه لساعده ضربه بالشفرة فبدأ الدم يسيل منها .. تقدم أحد الحاضرين لتهدئته ، فوجه ضربة أخرى إلى بطنه فسال منها الدم .. ومع كل جرح لذاته تزداد أعصابه تهيجا دون أن يتخلى عن قطعة البلاستيك التي يتوقف برهة ليأخذ منها أنفاسه كما لو كانت مصدر قوته .. يحمل كل مشرد في جسده ما يشبه خريطة لآلامه ومشاجراته، آثار للضرب بشفرات الحلاقة وأخرى بالسكين بارزة في كل أطراف الجسد بدءا من الخدين ومرورا بالساعدين وانتهاء بالبطن ، فالمشرد حين تهيج أعصابه تحت تأثير المخدر يتحول في حال تعرضه للإستفزاز والتهييج العصبي إلى كتلة عدوانية يفرغ شحناتها إما بالمشاجرة مع الآخرين أو بتوجيه الطعنات إلى جسده ، ولذلك وتحت ضرورات الدفاع وتأليم الذات، لايمكن مصادفة مشرد لا يحمل سكينا أو شفرة حلاقة ، تكون سلاحه الوحيد لمواجهة عدوانية الآخرين أو عدوانيته الذاتية .. رشيد الذي بدأ يمزق لحمه من الصعب معرفة ما إذا كان بطعنه لجسده ينتقم من نفسه التي وضعته في هذا الليل ووسط هذا البؤس أم أنه ينتقم من السكير الذي صفعه بجعله يتعذب تحت تأنيب ضميره ، ومع توالي الشجار بينهما بدا واضحا أنه يريد توريطه في جريمة «والله اليوم حتى نقتل راسي على قبلك ويحضر البوليس» .. وكما لو أن المعتدي قد باغتته لحظة صحو للضمير فبدأ يتقرب منه محاولا تهدئته وإرضاءه ، أعطاه خمسة دراهم فألقى بها بعيدا ، فالتقطها زميل له ، وتدخل بدوره لإطفاء نار غضبه قبل أن تتطور إلى ما لاتحمد عقباه .. في الآونة الأخيرة انتقل المشردون من استعمال مادة "السيلسيون" إلى التخدير بسائل "الدوليو" الذي يعتبر مفعوله أقوى بكثير من الأول ، فهو يصيب الأطراف بشبه شلل ويصبح تحرك الذي تناوله محفوفا بالخطر الذي قد يصل إلى الموت ، فقد اختفت آثار المشرد "قزانة" من محيط السوق المركزي بعد أن أدى به الإفراط في استعمال "الدوليو" إلى الموت في مشهد مأساوي ، ففي إحدى الليالي وبعد أن انتهى من رحلته في التسول كان عائدا إلى مرقده يمشي على قدمين بالكاد تحملانه ، حين وصل إلى المزبلة التي ينام فيها كان عليه أن يقفز بين عدد من الأحجار الكبيرة الحجم ليلتحق برفاقه ، لكن قدميه تشابكتا فارتطم رأسه بقوة بأحد الأحجار وفارق الحياة بعدها بقليل متأثرا بنزيف دموي حاد .. "قزانة" هذا شاب ينحدر من منطقة الحي المحمدي ، توفيت والدته وتزوج والده من جديد فعاش في كنف قسوة زوجة الأب ، في الأيام الأولى من تسكعه مطرودا من البيت تعلم شم "السيلسيون" فوجد والده في ذلك ذريعة لطرده من البيت وهو يخضع في ذلك فقط لضغوطات زوجته الجديدة، ويوم مات والده جمعت زوجته كل الأثاث ورحلت نحو وجهة غير معلومة و منذ ذلك الوقت وهو يبحث عنها فقط ليحصل على نسخة من عقد الإزدياد لأنه يريد الحصول على بطاقة للتعريف الوطني ، لكنه مات قبل أن يعثر على آثار زوجة أبيه ويرى صورته موضوعا عليها خاتم الإدارة العامة للأمن الوطني .. منهمكون في «العمل» و«قمارون» وبائعات أجساد مهترئة

بين حي الصخور السوداء وحي فلسطين، تمتد أرض شاسعة غير مبنية ، الظلمة التي تخيم على المكان وركامات الأزبال التي تتخذ أحجام وأشكال ربوات والصور المحيطة بها تجعل منه المكان النموذجي لاستقرار هؤلاء ، مع كل خطوة توضع في المكان تستبد الهواجس ومشاعر الخوف فتشرع درجة خفقان القلب في الإرتفاع .. من عمق الظلام ينبعث صوت ضجيج من المؤكد أنه لمجموعة منهم طلعت بهم "التبويقة" ، كلما اقتربت الخطوات منهم كلما ارتفع الصخب ، واتضح أنهم يلعبون "العيطة"(نوع من القمار) في إحدى اللحظات اشتد وطيسهم بعد أن رفض أحدهم إثر فوزه متابعة اللعبة، فاحتج إثنان بأنه كان بصدد الغش .. على بعد حوالي مائة متر منهم ، تتكوم أغصان أشجار جافة تراكمت فوق بعضها البعض مشدودة ببعض الخيوط البلاستيكية إلى الحائط الذي يسندها ، بجانبها بعض علب السردين من الحجم الكبير تلونت بالأسود نتيجة وضعها فوق النار للطهي ، من بين الأغصان يطل شيخ بصوت مبحوح يكاد يكون غير مسموع ليسأل الغريب عما يريد «اش باغي .. سير بحالك » ... ومع كل محاولة لطلب تجاذب بعض الحديث معه يصدك بالرفض ، وبعد الإصرار يضيف «إذا كنت من البوليس أنا ماشي قمار .. راهم تيلعبوا القمر لهيه ودابا غادين يضاربو كيف عادتهم» ولما يعلم أن محاوره صحفي يريد الحديث إليه، يعود إلى شراسته «سير بحالك ، ولاغادي نجيب ليك العساس صاحبي .. راه خدام مع البوليس وتيصيفط الناس للحبس» .. لايسمح هذا المكان بالمغامرة أكثر ، فبدا من الأفضل التوجه إلى محيط مبنى الولاية حيث توفر الحدائق العمومية هناك مجالا يستغله مشردون آخرون في قضاء ليلهم ، في الطريق إلى هناك والساعة تقارب الثالثة صباحا ، تلفت الإنتباه بين الفينة والأخرى على الرصيف صور لأجساد ألقت بكامل ثقلها للنوم وقد احتمت بقطع من الكارطون والبلاستيك لدرء لسعات البرد القارس ، لكن هناك آخرين استنفروا همتهم ونشاطهم لطلب الرزق .. شاب يرتدي جلبابا أسود وحذاء رياضيا يبحث بين القمامة عن شيء يصلح لأن يعيد بيعه .. يد تضع "شيفونة السيلسيون" فوق أنفه ويد أخرى تمسك بالكيس البلاستيكي الأسود من الحجم الكبير فوق كتفه ، بتثاقل يمر من قمامة إلى أخرى .. سباق مع منافسيه وسباق آخر مع عمال النظافة .. شغله الشاغل كل ليلة أن يجمع أكبر قدر ممكن من سلعته المفضلة ، يجمع قارورات الزجاج والبلاستيك ليعيد بيعها في الغد بدرهم لقنينة الجعة الفارغة ودرهمين لقنينة الخمر الحمراء وخمسة سنتيمات للقارورة البلاستيكية الواحدة ... وفي جميع الحالات، لا يتعدى مدخوله عشرين درهما من جولة ليلية يطوف فيها أحياء عين برجة وبلفدير وبنجدية وقد تمتد به قدماه إذا ما أسعفته جرعات السيلسيون ومساحة الكيس إلى الحي المحمدي بعد أن يكون قد مسح وسط المدينة «بنادم تيشوفنا شمكارة تيحتقرنا وإذا طلبنا ليه الصدقة ما تيعطيناش اللهم نترزق الله من الطارو».. الساحة المقابلة لمبنى الولاية لم تعد ذلك المعقل الذي يضرب فيه الشمكارة مواعيدهم الليلية للسمر وأشياء أخرى تتراوح بين السرقة والإغتصاب التي يقدم عليها بين الفينة والأخرى بعد المتوحشين منهم ، فمنذ حدوث اخر جريمة اغتصاب هناك وامتداد أعمدة الإنارة العمومية صار المكان مكشوفا ، ولم يعد يعثر لهم فيه على أثر ، لكنهم لم يبتعدوا كثيرا عنه ، فقد تراجعوا قليلا فقط إلى الهوامش المظلمة في محيط حديقة الجامعة العربية التي توفر لهم بعشب ممراتها فراشا للنوم .. في الطريق الفاصل بين هذا المكان والحديقة الصغيرة المحاذية لضريح سيدي بليوط، حيث يتكوم مشردون آخرون غارقين في نومهم ، يصادف المتجول في مسافات متقاربة مشردات يجلسن رفقة أطفال يتسولن بهم .. عند مدخل شارع الحسن الثاني تجلس امرأة رفقة طفلين ،أمامها وضعت منديلا نثرت فوقه بضعة دراهم ، أخذها النوم وبقي أحد الطفلين يستجدي سكارى آخر الليل بعينيه الذابلتين وقد احمرت وجنتاه من البرد ، أثار انتباه أحد السكارى فتقدم منه سأله من تكون التي برفقته وظل يبحلق بعينيه ، أثر فيه المشهد، فألقى للطفل بدرهمين فوق المنديل ثم انصرف .. وغير بعيد عن تلك السيدة تقف إحدى المشردات وقد وضعت بجانبها طفلا لايتجاوز عمره في أحسن الأحوال ثلاث سنوات ، جلبابها متسخ وشعرها مبعثر كما لو أنها خرجت لتوها من مشاجرة شرسة ، وجنتاها احمرتا حتى صارتا تميلان إلى الأحمر القاتم من تأثير الكحول والبرد ، وفي فمها لم يبق هناك إلا أثر لبقايا أسنان ، بدت في مرحلة ترنح متقدمة وهي تتمايل متراقصة على إيقاعات تموج المخدر في دماغها ، «دور معاي» قالت بنبرة متثاقلة، وبعد تبادل لأطراف الحديث بدأت تحكي عن معاناتها منذ أن تخلى عنها عشيقها وهي حامل كما تخلت عنها سوق الدعارة، فلم تعد تجد من مورد للرزق غير أن تستجدي المارة لتحصل على مصروف البلية ونفقات إطعام طفل قد يعيد إنتاج نفس مسار تشرد والدته .. في تلك الأثناء توقف بالقرب منها شابان في منتصف العشرين من عمرهما ، أزاح أحدهما الشيفونة عن أنفه وبلسان يشعر به أثقل من الصخر ولايحركه إلا بصعوبة تساءل عن الطريق إلى محطة أولاد زيان ، وحين ردت عليه متهكمة «واش غادي للطاليان» رد بدوره مازحا «لا بغيت الماريكان» ولأنها ارتاحت لمزاجه الرائق تجرأت وطلبت منه خدمة «سقيني شوية ديال الدوليو .. هاذ السيلسيون بارد مادار لي والو» ، فأخرج من جيبه قنينة صغيرة أعطاها قليلا منه ثم ردها إلى جيبه بحركة خفيفة «يالله عندي باش نشد الطريق » ولما استفسرته عن وجهته كان جوابه أنه يريد العودة إلى مدينته الأصلية طنجة بعد أن فشل في التسلل إلى الميناء «جيت من طنجة باش نحرك .. ولكن الدنيا مزيرة .. وهاد كازا طلعات لي فالراس ».. بعض المشردات يحترفن مهنة أخرى وهن في شبه غيبوبة ، ففي الكثير من أزقة وسط المدينة تنتشر مشردات يعرضن ممارسة الجنس بأسعار مشجعة .. هناك قرب ممر "سوميكا" تقف ثلاث منهن يبدو أنهن في الأربعينات من العمر، يجلسن في عتبة باب إحدى الشركات يتربصن بالزبناء ،وهن يقتلن الوقت بشرب الكحول ، مثير حقا أن يكون فيهن ما يثير جنسيا ، لكن المغاربة يقولون إن «كل زرع تيجيب ليه الله كيالو» .. فسوقهن لاتخلو من زبائن من نفس الطينة أو من سكارى فقدوا صوابهم ، ويمكن مشاهدتهم وهم يمرون عليهن بعيونهم لاختيار التي مازال فيها قليل من قابلية الإستعمال .. حين تحصل إحداهن على زبون وتتفق معه على المبلغ تقوده إلى ظلام الزنقة المقابلة ، فهن يجعلن من هذه الزنقة وأبواب العمارات غرف نومهن مع زبنائهن بتواطئ مع الحراس الذين يحصلون على مقابل لتغاضيهم ، والمبالغ المطلوبة تبدأ في البداية من خمسين درهما كسقف لترسو بعد المفاوضة عند عشرين أو عشرة دراهم .. من هذه الزنقة انبعث صوت صراخ إحدى زميلاتهن ، وقفن لتقصي الأمر فوجدن أنها دخلت في صراع مع زبونها المخمور إلى حد الثمالة، كانت السعدية تمسك بثيابه وهي تصرخ «الشفار.. عاطيني عشرين درهم وخونتي لي أربعة آلاف ريال ».. تحلقت حولها زميلاتها وأكدن أنها كانت فعلا تتوفر على ذلك المبلغ ، والرجل يحاول بما تبقى لديه من قدرة على الحركة تبرئة نفسه من أن يكون قد سرقها ، وبينما الصراع قائم على أشده أبصر الجميع سيارات ودراجات الشرطة الحضرية قادمة فاطلق الجميع سيقانهم للريح .. في الساعات الأولى من الصباح ، وحين يشرع أهل النهار في الخروج يحاربون آخر بقايا النوم في جفونهم ، يجدون في الطريق ما خلفه مشردو الليل: قمامات مقلوبة ، زجاجات الكحول الحارق مرمية هنا وهناك ، آثار للدم تدل على مشاجرات ليلية ، وبين الفينة والأخرى يبصرون أجسادا تتكوم فوق الرصيف أو في عتبات العمارات .. كما قد يصادفون أيضا مشردين آخرين قضوا ليلتهم نائمين وانطلقوا بدورهم ينافسونهم في نشاط اليوم ، وبين هؤلاء وأولئك ، يظلون ينظرون لعالمهم الخاص من الخارج وقد يتعاطف معهم البعض ويحتقرهم الآخرون ، لكنهم حتما لا يأبهون وربما يقولون في قرارة أنفسهم «هذه حياتنا ونحن بها راضون»..