ثمة إشكالية واضحة تواجه الفكر العربي حالياً تتمثل في مسألة العلاقة بين مفهومي (القُطرية) و (القومية) ، انطلاقاً من النظرة إليهما باعتبارهما مفهومين متقابلين، يسير كلاهما عكس الأخر، دون أدنى مساحة مشتركة، بالرغم من أن كلا المفهومين قد دخلا العقل العربي من باب تحقيق المصلحة العربية.
ولسبر أغوار الحقيقة في هذه المسألة يمكن القول بأن المشكلة ليست في جوهر أي من المفهومين وما قد ينطويا عليه من حدود نظرية، وتطبيقات عملية قد تفضي واقعياً إلى نهج عربي مختلف في التعاطي مع العوالم المجاورة، بقدر ما يعود في الأصل إلى طبيعة العقل الذي تعامل معهما باعتبارهما بديهيات أفضت إلى أحادية نظرة كليهما للأخر، فضلاً عن عدم قدرته على شج الفروق بينهما، بَلُه التعاطي معهما.
فقد بدا دائماً أن ثمة تحيزاً موروثاً لصالح الفكرة القومية، ليس باعتبارها مناهضة لأي محاولة للخروج عن عباءة "العروبة" فحسب، وإنما أيضا بكونها خروجاً على إجماع، غير موجود أصلاً، بما يستوجب التصدي له ومحاربته بشتى الطرق.
وكثيرا ما انطلق التعاطي مع الفكرة، من زاوية أنها الوسيلة الأنجع وربما الوحيدة، لتحقيق الصالح العربي، وهو ما بدا صحيحاً إبان مرحلة التحرر الوطني التي قادها الزعيم المصري جمال عبد الناصر إبان الخمسينيات والستينيات وأتت أكلها طيلة هذين العقدين ممثلاً في تحرير جزء كبير من العالم العربي وتشكيل (نظام إقليمي) عربي استطاع أن يواجه تحديات الوضع الدولي آنذاك.
وعليه فقد تحولت القومية إلى واقع يصادر أي فكرة مختلفة ويوأد أي مفردة قد يفهم منها شق الصف، ما أفرز التناقض الحادث حالياً بين القُطرية والقومية من وجهة نظرنا.
وظلت القومية تعمل بكفاءة، ليس لسلاسة منطقها ووضوح نهجها، بقدر ما هو نتيجة لطبيعة تلك الفترة التي كانت حبلى بالمشاعر القوية تجاه أي حلم عربي يستطيع مواجهة العدو الخارجي (الاستعمار) ، ما أضفى عليها قدراً من التمدد لم يكن ليتراجع مقابل أي فكرة أخرى. كذلك دعمتها تلك الانتصارات (المعنوية) التي حققها جمال عبد الناصر بدءاً من التصدي لفكرة حلف بغداد في 1955 ومروراً بحرب 1956 التي خرج منها كالمنتصر (سياسياً)، وانتهاء بالوحدة المصرية السورية (1958-1961) وذلك دون إغفال قراره (الشجاع) بتأميم قناة السويس الذي وفر هالة، للنهج الناصري، لم تكن لتنقصه، في النفوس العربية.
وإنصافاً، فإن الفكرة القومية، كمفهوم مجرد، ليست حلماً أو وهماً يصعب تخيله، فضلاًَ عن إمكانية تحقيقه، فهو تحقق في التجارب السابقة واللاحقة على التجربة العربية، بدءاً من القومية الإيطالية التي تحققت على يد كافور، ومروراً بالجرمانية التي دشنها بسمارك وانتهاء بالروسية التي التئمت لُحمتها قبل الحرب العالمية الأولى ، ناهيك عن التجربة الأوروبية التي بدأت لاحقاً وتوجت مؤخراً بالاتحاد الأوروبي.
إذا لا جديد في القول بأن المشكلة لم تكن في المفهوم بقدر ما هي في تطبيقاته، فالقومية بشكل أو بأخر تعني بصهر الولاءات القطرية في قالب جامع بشكل يحقق مصالح المجموع كفرادي، بيد أن ما حدث هو تحقيق مصالح المجموع في مقابل مصالح الدول كفرادي وربما على حساب بعضها البعض.
وهذا لُب المعضلة، فهدف القومية العربية كثيراً ما تركز في إبراز الوحدة العربية عبر القواسم المشتركة ، دون الاكتراث بالاختلافات، التي كانت في حد ذاتها محرمة باعتبارها ناقضة لعنقود الوحدة. والأنكى ، كما يرى ناصيف حتيى ، أن فكرة القومية ذاتها لم يكن لها إطار مؤسسي يدعمها ويؤصلها فعلياً، فجامعة الدول العربية التي تم تدشينها على خلفية تحقيق الحلم العربي في مواجهة إسرائيل (الخطر القريب) لم تتبن فكرة القومية في ميثاقها الذي نص على ضرورة أن تحتفظ كل دول بسيادتها واستقلالها التام، وألا تتدخل جامعة الدول العربية في الشئون الداخلية للدول باعتبارها وحدات ذات سيادة، وهو ما وفر درعاً واقياً للنخب العربية تتحجج به في مواجهة أي قرار جماعي قد يضر إحداها بذريعة السيادة.
أي أن فكرة (القُطرية) هي موجودة ضمناً في ميثاق الوعاء الجامع للإرادات العربية ممثلاً في جامعة الدول العربية، لذا فلا عجب أن تفغر الأفواه أمام تجربة الاتحاد الأوروبي باعتباره حقق حلماً كثيراً ما تاقت إليه (النفس) العربية.
في المقابل كان يتم التقليل من جدوى التحركات العربية المنفردة، لذا كانت هزيمة 1967 بمثابة الصدمة القاسية ليس لحجم ما رتبته من هزيمة، فقد حدثت ذلك من قبل في 1948، ولكن لصعوبة توقع حدوثها، عطفاً على المد القومي الذي ظل يعمل بكفاءة حتى وقوع الصدمة، حيث استفاقت الأمة على وقع حدثٍ جلل، لم تتوقعه مخيلتها، خصوصاً في ظل الاعتقاد بانعدام التكافؤ بين تكتل عروبي ودولة طفيلية، جُل اهتمامها لملمة أطرافها المشتتة.