في خطبة التنصيب يرسم الرئيس الأمريكي عادةً الأهداف العامة لسياسته في جميع الميادين. وفي خطبة “حال الاتحاد” يكشف المناهج والآليات والإجراءات المتعلقة بتنفيذها.وخلال شهادتها امام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، كشفت كوندوليزا رايس قبل تثبيتها في منصبها الجديد وزيرةً للخارجية عن تلك الأهداف والمناهج والآليات والإجراءات اكثر بكثير مما قاله جورج بوش في خطبة التنصيب او ما سيقوله، ربما، في خطبة “حال الاتحاد” مطلع الشهر القادم.
البوح السياسي الذي انساب على لسان فاتنة البيت الأبيض ما كان ليحدث لولا ان صاحبته تتميز، الى قربها من سيدها، بمزية الاطلاع على كل خفايا السياسة الخارجية ومخططات وزارة الدفاع “البنتاجون” بحكم كونها مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، ولأنها وجدت نفسها ايضا مضطرة للرد على أسئلة أشياخ ديمقراطيين وجمهوريين عتاة في معرض الدفاع عن سياسة سيدها، ولطمأنة الأمريكيين والعالم الى حسن نيته وتدبيره في ولايته الثانية.
في بوحها الطويل والجريء كشفت رايس ما أضحى عقدة بوش وأولويته المطلقة: “الإرهاب”. فالحرب على الإرهاب - بالمفهوم الأمريكي - مستمرة، بلا هوادة، في كل مكان، لا سيما في افغانستان والعراق وفلسطين، ومرشحة للامتداد الى كوريا الشمالية وإيران. وكي يتأكد أعضاء مجلس الشيوخ والعالم أجمع ان ما باحت به جدي جداً ويعبّر عن مكنونات قلبه وعقله معا، حرص سيد البيت الأبيض على ان يؤكد للملأ، بعد ساعات قلائل من بوح كوندوليزا، “انه لا يستبعد إطلاقا القيام بعمل عسكري ضد إيران إذا استمرت في حجب برنامجها للأسلحة النووية عن المجتمع الدولي”.
مجرد حجب المعلومات، إذاً، عقوبته الحرب. ماذا ستكون العقوبة لو ثبت لواشنطن حقا ان لدى ايران، كما يدّعي وزير دفاعها الأميرال علي شمخاني، “معدات نجم عنها اعظم رادع”، قد يكون سلاحا نوويا ؟
الى ذلك وسّعت كوندوليزا دائرة بيكار “الدول المارقة” لتضم، بالإضافة الى كوريا الشمالية، بيلاروسيا وكوبا وايران وزمبابوي التي أطلقت عليها مصطلح “مواقع متقدمة للطغيان”.
غير ان قعقعة السلاح في كلمات كوندوليزا الصارمة ضد الإرهاب لم تطغ على كلماتها الناعمة عن “الدبلوماسية العامة” التي تعهدت وزير خارجية أمريكا العتيدة بأن تكون في طليعة اولوياتها. لماذا؟ “لأن زمن التحوّلات العالمية الراهن يتطلب دبلوماسية تغييرية”. وفي هذا المجال دعت كوندوليزا ايضا الى دعم الحرب على الإرهاب ب “حرب فكرية” لشرح السياسة الأمريكية في العالم.
حرب على الإرهاب، وحرب فكرية لشرح السياسة الأمريكية، وحرب أعصاب دبلوماسية على كوريا الشمالية وإيران قد تتطور الى حرب ساخنة. من حرب الى حرب، هذه هي سياسة بوش على لسان كوندوليزا. بالحرب تُمكن معالجة كل الأمور، فقد اضحت الحرب طريقة حياة.
مع ذلك تصرّ كوندوليزا على ان العودة الى الدبلوماسية ستكون شعار سياستها مشيرةً الى ان الأسابيع القليلة المقبلة ستشهد “تطوراً نوعياً على صعيد الدبلوماسية العامة لجهة دعم التيارات الإصلاحية في الدول العربية”. كيف؟ الجواب: “الرئيس بوش سيتبنى شخصيا دعوات من مؤسسات أمريكية لإطلاق سراح معتقلين سياسيين في عدد من الدول العربية، كما سيدعو اصلاحيين عرباً لزيارة واشنطن وإطلاع الرأي العام الأمريكي على تطورات الأوضاع في بلدانهم”. اكثر من ذلك: “سيتم ترتيب لقاءات مع مسؤولين أمريكيين لإصلاحيين يتمتعون بالصدقية في بلدانهم”.
لن يذهب الرئيس الأمريكي، بطبيعة الحال، للمشاركة في الاعتصامات التي تنظّمها جمعيات حقوق الإنسان أمام مبنى “الاسكوا” للأمم المتحدة في بيروت للمطالبة بالإفراج عن سجناء الرأي في البلدان العربية والمعتقلين العرب في سجون “إسرائيل”. سيكتفي بدعوة مثقفين ليبراليين أمثال سعد الدين ابراهيم من مصر، وكنعان مكية من العراق، والعفيف الأخضر من تونس، وغيرهم ممن ينظرون الى مساوىء حكوماتهم من منظار الديمقراطية كما عرفوها وخبروها وأعجبوا بتجاربها في دول أوروبا وأمريكا.
صحيح ان كوندوليزا أكدت في شهادتها أمام أشياخ الكونجرس انها تتطلع الى “استخدام الدبلوماسية الأمريكية لمعالجة هذه القضية المعقدة والحيوية” (تعني قضية امن “إسرائيل” وتحسين أوضاع الفلسطينيين) لكنها سارعت الى الاستدراك بقولها: “لكن السلام النهائي لن يتحقق إلا اذا انتهى الإرهاب”.
الإرهاب هو الأصل والفصل. العقدة والهاجس. المبتدأ والخبر. كل ما لا يروق لبوش (وللمحافظين الجدد) هو إرهاب بإرهاب. البرامج النووية للأغراض السلمية إرهاب. منظمات المقاومة “عصابات مسلحة”، كما سمتها كوندوليزا حرفيا في شهادتها. منطقة الشرق الأوسط هي “منطقة طغيان ويأس وغضب تنتج المتطرفين والحركات التي تهدد امن أمريكا وأصدقاءنا”، فهي اذاً إرهابية.
عندما تصف كوندوليزا منظمات المقاومة بأنها “عصابات مسلحة”، فمعنى ذلك ان مقاومة الاحتلال أضحت إرهابا، تماما كما يصفها ارييل شارون. غني عن البيان ان بوش وافق على لاءات شارون جميعا: لا للقدس، لا لحدود ،1967 لا لعودة اللاجئين، لا لإزالة المستوطنات، ومع ذلك تريد كوندوليزا من الفلسطينيين التنازل عن المقاومة كي تقبل “إسرائيل” مفاوضتهم على “الوضع النهائي” بعد ان تكون حقوقهم جميعا قد انتهت!
في مسألة العراق، تطايرت الشرارات في السجال الحار بين كوندوليزا والسناتور باربره بوكسر، الجمهورية التي تمثل ولاية كاليفورنيا، التي اتهمتها بأنها لم تكن صادقة في تصريحاتها حول مبررات الحرب على العراق، وأنها ناقضت الرئيس بوش وناقضت نفسها. أهم ما جاء في ردّ كوندوليزا عليها في هذا السياق ان ليس لدى الإدارة الأمريكية “استراتيجية خروج” من العراق في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور. والأهم من قولها هذا تعليق السناتور جوزف بايدن على إشاراتها المتعددة الى استخدام سلاح الدبلوماسية العامة في العمل لإنجاح الحرية والديمقراطية في العراق وغيره من بلدان الشرق الأوسط: “إن زمن الدبلوماسية أتى وفات بالنسبة الى العراق”!
الحقيقة ان زمن الدبلوماسية فات بالنسبة الى العراق وإلى غيره ايضا. فها هي الحرب على الإرهاب تتسبب في توسيع رقعته على نحوٍ غير مسبوق. قبل الحرب على العراق لم يكن ثمة إرهاب - بالمعيار الأمريكي - في المنطقة إلاّ ما كانت تنسبه واشنطن من أفعال الى نظام طالبان في أفغانستان. بعد احتلال العراق انفجرت أعمال العنف على مستوى المنطقة كلها لتشمل دولا اتصفت بالاستقرار مدةً طويلة كباكستان واندونيسيا والسعودية والكويت، وهي تهدد الآن دولاً اخرى.
اذْ تعاني أمريكا وحلفاؤها العنف المتصاعد ضد مواطنيها وجنودها ومصالحها، تكابد في الوقت نفسه ظاهرة أخرى قاسية هي كراهية الشعوب الإسلامية لها. لقد تبدّى القلق واضحاً من هذه الظاهرة المتفاقمة في شهادة كوندوليزا رايس أمام أشياخ الكونجرس كما في ملاحظات هؤلاء وتعليقاتهم على ما ورد في شهادتها. ومع ان كوندوليزا ابدت استعدادا واضحا لمعالجة هذه الظاهرة المقلقة، الاّ ان طغيان مواجهة الإرهاب على طروحاتها ظلّل صدقيتها، بل صدقية سيدها في هذا المجال. وكان لافتا ومثيرا لاستغراب بعض مستمعيها في اثناء شهادتها اقتباسها كلمات من كتاب الوزير “الإسرائيلي” ناتان شارانسكي “حجة من اجل الديمقراطية” الذي سبق لبوش ان أوصى بقراءته لكثير من الذين التقى بهم خلال الفترة الأخيرة. فقد أشارت كوندوليزا الى “مجتمعات الخوف” في المنطقة والحاجة الى تطبيق معايير تحدد مدى حرية الدول المعنية.
أجل، استغرب البعض إشارتها الى مجتمعات الخوف. إلا ان احداً لم يقل لها ان تلك المجتمعات ليست خائفة على أمريكا بل خائفة منها.. أمريكا الخائفة والمخيفة في آن.