‏لا يتصور رجل السياسة نفسه إلا في ثلاثة أماكن‏..‏ المكتب‏..‏ حيث يمارس عمله‏..‏ السجن‏..‏ حيث يدفع ثمن مواقفه‏..‏ والقبر‏..‏ حيث تنتهي حياته‏..‏ هكذا‏..‏ كان جمال عبد الناصر يلخص وجوده في الدنيا‏..‏ ليفسر سر عزلته عن الحياة الاجتماعية‏..‏ بعيدا عن جلسات النميمة وشبكات المصالح‏.‏
وقد شاءت الأقدار أن ينتقل من المكتب إلي القبر دون أن يمر بالسجن‏...‏ لكن‏..‏ ذلك لم يكن مصير رجاله المقربين له‏..‏ ومنهم كاتم أسراره‏..‏ ومسئول معلوماته‏..‏ والطرف الثاني من خطه الساخن‏...‏ سامي شرف‏..‏ فقد انتقل من المكتب إلي السجن‏...‏ ومن السجن إلي بيته ليكتب مذكراته التي نشرت أخيرا تحت عنوان سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر
ولد سامي عبد العزيز محمد شرف في الساعة الثالثة من صباح يوم‏21‏ أبريل عام‏1929‏ في فيلا بحي مصر الجديدة أصبحت فيما بعد مدرسة حكومية ومقره الانتخابي حيث يدلي بصوته في الحجرة التي تنفس فيها شحنة الهواء الأولي‏..‏ وحتي هذه اللحظة لا يزال الرجل يعيش في مصر الجديدة‏..‏ ولكن ليس في فيلا‏...‏ ولا في قصر‏..‏ وإنما في شقة متواضعة ضيقة‏..‏ تساقط طلاؤها‏..‏ فيها صورة وأوراقه وذكرياته‏.‏
تنتمي جذوره العائلية إلي قبائل عربية هاجرت من الأراضي الحجازية ينتسب إليها شاعر الرسول حسان بن ثابت واستقرت في الشرقية‏..‏ خرج منها فيما بعد الشيخ حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر‏..‏ أما والده فقد درس الطب في بريطانيا وعاد حاملا الدكتوراه في الجراحة من أدنبره‏..‏ واصبح مفتشا للصحة في أكثر من محافظة‏..‏ وقد تمني أن يكمل ابنه رسالته‏..‏ ويصبح طبيبا مثله‏..‏ ووافقه الابن علي ذلك برغم أنه كان يميل إلي الدراسة العسكرية‏...‏
وبالفعل اصطحب الأب ابنه إلي عميد كلية الطب الدكتور علي إبراهيم باشا وقال له‏:‏ يا باشا أنا عايز ابني سامي يكمل مشواري‏..‏ وطلب استثناءه من المجموع باعتباره ابن طبيب فوافق الباشا قائلا‏:‏ روح أدفع المصاريف‏.‏
كانت المصروفات‏45‏ جنيها في السنة الدراسية غير ثمن الكتب‏..‏ ولم يكن مع الأب تلك المصروفات فذهب إلي مرابي يهودي تعود الاقتراض منه‏..‏ ولما طلب منه خمسة وعشرين جنيها قال مسيو حنانيا‏:‏ يا دكتور عبد العزيز العشرين يتردوا أربعين يوم الخميس‏...‏ بعد ثلاثة أيام فقط‏..‏ وفار الدم في عروق ابنه الذي كان حاضرا‏..‏ وقرر أن يقدم أوراقه إلي كلية التجارة انتظارا لطلب دفعة جديدة للكلية الحربية‏..‏ لكن‏..‏ يوم الكشف الطبي في اختبارات الكلية الحربية اصيب بمرض التيفود‏..‏ فلم يلتحق بتلك الدفعة التي عرفت بدفعة‏1948..‏ وهي دفعة تسببت في كثير من المتاعب السياسية فيما بعد‏..‏ وكان من أبرز ضباطها شمس بدران‏...‏ وزير الحربية الأسبق ورجل المشير عبد الحكيم عامر المقرب الذي حاول الإنقلاب علي جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو‏1967.‏
التحق سامي شرف بالكلية الحربية في سبتمبر‏1946‏ وأطلقت علي دفعته اسم الكوليرا‏..‏ نظرا لانتشار مرض الكوليرا في تلك السنة‏..‏ وقبل اقل من‏3‏ سنوات تخرجت تلك الدفعة ليجد نفسه في سلاح المدفعية‏..‏ وهو ما شجعه علي الزواج بعد أن أصبح ملازم أول مرتبه‏12‏ جنيها في الشهر‏...‏ واختار جارتهم في السكن ليكون نصفه الآخر‏..‏ السيدة تغريد‏..‏ ليتزوجا في عام‏1951‏ ليكونا عائلة من‏4‏ أبناء وبنات و‏12‏ حفيدا‏.‏
بعد الثورة بثلاثة أيام فقط انتدب سامي شرف للعمل في المخابرات الحربية ليكون واحدا من المجموعة الأولي التي أسست المخابرات العامة‏..‏ لكن‏..‏ كانت علاقته بجمال عبد الناصر هي نقطة التحول في حياته الشخصية والسياسية‏..‏ لقد استمرت تلك العلاقة‏18‏ سنة‏..‏ حوالي‏6480‏ يوما‏..‏ نحو‏15520‏ ساعة‏.‏
كان اللقاء الأول بينهما في نهاية عام‏1951..‏ كان سامي شرف يدرس في مدرسة الشئون الإدارية دورة للترقي لرتبة نقيب‏..‏ وكان جمال عبد الناصر يقوم بتدريس مادة التحركات والمخابرات في تلك الدورة التي ألغيت بسبب حريق القاهرة‏(‏ في‏26‏ يوليو‏1952)‏ وإعلان حالة الطوارئ في الجيش‏..‏ لكن‏..‏ رغم ذلك أبدي جمال عبد الناصر إعجابه به قائلا‏:‏ إذا استمريت بهذا الأسلوب في العمل سيكون لك مستقبل يبشر بالخير
والحقيقة أن سامي شرف الذي عرفته عن قرب بعد خروجه من السجن الذي وضعه فيه أنور السادات في القضية التي عرفت بقضية‏15‏ مايو هو شخص حاد الذاكرة‏..‏ دؤوب‏...‏ سريع البديهة‏..‏ يهوي الحصول علي المعلومات وتوثيقها‏..‏ قادر علي العمل لساعات طويلة‏...‏ يتحمل الإرهاق رغم تعرضه لأزمات صحية حادة وخطيرة في السنوات الأخيرة‏.‏
في ليلة الثورة‏..‏ بالتحديد في منتصف الليل فوجئ بزميله محمد المصري علي باب بيته يطلب منه الاستعجال في ارتداء ملابسه العسكرية دون أن يبدي أسبابا‏..‏ فاستجاب لطلبه دون تردد‏..‏ فقد كان يعرف أن الجيش يغلي من الداخل‏...‏ ومنشورات الضباط الأحرار تضاعف من كثافة البخار‏..‏ وفي الطريق قال له محمد المصري‏:‏ إن الثورة قد قامت‏..‏ ثم كلفه بمهام محددة قام بتنفيذها دون سؤال‏..‏ لكن المهمة الأولي له بعد نجاح الثورة بثلاثة أيام كانت تقديم نفسه للمخابرات الحربية حيث كلف بالتوجه إلي مبني مصلحة التليفونات والتلغراف‏(‏ في قلب القاهرة‏)‏ لمراقبة البرقيات المرسلة من الصحفيين الأجانب والواردة إليهم باعتباره يجيد الإنجليزية والفرنسية‏.‏
بعد يومين استدعاه زكريا محيي الدين‏(‏ المسئول عن المخابرات الحربية‏)‏ ليبلغه باختياره عضوا في هيئة جديدة شكلت باسم هيئة مراقبة الإدارة الحكومية يشرف عليها جمال عبد الناصر‏..‏ تتبع مجلس قيادة الثورة‏...‏ وتتكون من عشرين ضابطا من الضباط الأحرار‏..‏ كانت بمثابة الرقابة الإدارية الآن‏...‏ وبعد أيام استدعاه جمال عبد الناصر ليقول له‏:‏ أزيك يا أستاذ‏...‏ أنت حاتشتغل في المخابرات ومش فيها‏...‏ ايه رأيك ؟‏...‏ ولم يفهم كيف سيعمل في المخابرات دون أن يكون فيها ؟‏..‏ قال جمال عبد الناصر‏:‏ وحدتك ستكون مع زكريا محيي الدين في المخابرات لكن تكليفاتك ستكون مني مباشرة وتقاريرك تعرض علي وحدي وكانت أول مهمة يكلف بها منه هي التأكد مما يشاع حول قيام مصطفي أمين بعمل أرشيف سري خاص به بعيدا عن اخبار اليوم يستخدم فيه محررين بعينهم للحصول علي معلومات وأخبار والقيام بمهام خاصة ليست للنشر وأن هؤلاء المحررين يتلقون منه مرتبات شخصية ولو كان ذلك صحيحا فأين هذا الأرشيف ؟ وماذا يحوي ؟ وبالنص يقول سامي شرف في مذكراته‏:‏ إنه بدأ علي الفور بتحديد مكان ذلك الأرشيف ومحتواه في مبني أخبار اليوم بعملية اختراق لأشخاص قريبين منه بعدما اقام صلات شخصية معه ومعهم‏..‏ ولا يتردد في أن يذكرهم بالاسم‏...‏ وقد أصبحوا فيما بعد من نجوم الصحافة المصرية ورؤساء تحريرها‏.‏
كان نجاح هذه المهمة مشجعا لتكليفه بمهمة أصعب وهي الحصول علي الأرشيف السري للبوليس السياسي قبل الثورة الذي كان يرأسه اللواء محمد إبراهيم إمام بعد شيوع الاتهام بين الصحفيين والسياسيين بتعاملهم معه وتقاضيهم مصروفات سرية منه‏...‏ وقد نجح سامي شرف في الاتصال به وجاء الرجل بنفسه إلي مكتبه وهو يحمل حقيبة صغيرة بها متعلقات شخصية‏...‏ فقد توقع احتجازه‏...‏ لكن‏...‏ ذلك لم يكن في الحسبان‏..‏ كان كل المطلوب منه أن يكشف عن مكان أرشيفه السري‏..‏ فقال‏:‏ إن ذلك الأرشيف وضع بعد حريق القاهرة في غرفة سرية بقصر عابدين يصعب الوصول إليها‏...‏ ووجدها سامي شرف فرصة ليسأله عن المسئول عن إشعال النار في القاهرة يوم‏26‏ يناير‏1952...‏ وكان ما قاله مفاجأة‏..‏ إن شرارة الحريق الأولي أطلقها الملك فاروق بترتيب خاص مع بعض المحيطين به لإحراج حكومة الوفد التي كانت شعبيتها تتزايد منذ توقيع معاهدة‏1936...‏ وفي الوقت نفسه سعي الملك بذلك الفعل الإجرامي إلي ممارسة الضغوط علي الإنجليز الذي كانوا يتعاملون معه بأساليب مهينة ويتعاطفون مع الوفد منذ حادث‏4‏ فبراير‏1942.‏
لكن‏..‏ الشرارة التي أطلقها الملك سرعان ما فقد الأمن السيطرة عليها واستغلتها عناصر متطرفة من الشيوعيين والإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة لتحويل البلاد إلي فوضي فيسهل التخلص من النظام‏..‏ لقد لعب الملك بالنار فكان أول من احترق بها‏..‏ فلم تمر سوي شهور قليلة حتي كان الملك فاروق شخصيا يغادر البلاد مطرودا منها‏.‏
وكانت المفاجأة الأكثر إثارة علي لسان رئيس البوليس السياسي‏:‏ إن حركة الضباط الأحرار كانت مرصودة وكان مقررا اعتقال رموزها الكبار وعلي رأسهم جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وجمال سالم وصلاح سالم وحسن ابراهيم وأنور السادات وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين ووجيه أباظة وخالد محيي الدين وحسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرؤوف وابو المكارم عبد الحي‏..‏ وغالبيتهم شكلوا فيما بعد مجلس قيادة الثورة بعد نجاحها‏.‏
لقد كانت ـ المهمة السرية الأولي التي كلف بها جمال عبد الناصر الضابط الشاب سامي شرف هي بداية الثقة فيه‏..‏ وهي ثقة لم يكن الرجل الذي غير النظام السياسي والاجتماعي في مصر يمنحها بسهولة لأحد‏..‏ إن كل من عمل معه وبالقرب منه كان يشعر بأنه في اختبار يومي‏...‏ لقد كان الخطأ الأول للواحد منهم هو في الوقت نفسه الخطأ الأخير‏..‏ وظلت هذه القاعدة هي قاعدة الاستمرار والبقاء في مؤسسات الدولة الحساسة فيما بعد‏.‏
إن شهادة سامي شرف الذي كان مسئولا عن رئاسة الجمهورية سنوات طويلة تتفجر بأسرار مثيرة وغامضة‏..‏ تستحق أن ننظرها فيما بعد‏.‏