إبراهيم غالي: يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال تصعد جهودها للحيلولة دون تولي المدير الحالي للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي فترة ولاية ثالثة حيث بدأت حملة واسعة بين الدول الأعضاء للوكالة للتصويت ضد البرادعي رغم أنه المرشح الوحيد بعد أن انتهي موعد تقديم الترشيحات بنهاية عام‏2004‏ دون أن تتلقي الوكالة أي طلب للترشيح لمنصب المدير العام‏.‏
وتشير الوقائع إلي أن‏'‏ البرادعي‏'‏ قد أثار حنق الأمريكيين في مناسبات عديدة فهو قد شكك سابقا في المعلومات الاستخباراتية الأمريكية حول برامج التسلح النووي العراقية واتهم واشنطن في أكثر من مناسبة بالازدواجية في التعامل مع القضايا النووية وطالبها بخفض ترسانتها النووية ووقف برامج الأبحاث ونظم الدفاع الصاروخية مرورا بالكشف عن اختفاء‏377‏ طنا من المتفجرات من موقع عراقي في أكتوبر الماضي وصولا إلي اكتمال غضب واشنطن بعد أن أظهر البرادعي استقلالية كبيرة في تناوله لقضية الملف النووي الإيراني وتأييده الشديد للاتفاق الإيراني الأوروبي الذي حال دون تحقيق الهدف الأمريكي في عزل إيران دوليا وهو ما أدي لاتهامه من جانب الإدارة الأمريكية بعدم الحزم مع الإيرانيين بل والتفاوض معهم حول تقارير أعدتها الوكالة وتعمده حجب معلومات عن مجلس محافظي الوكالة كان من الممكن أن تحيل هذا الملف الشائك إلي مجلس الأمن الدولي وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول إدارة‏'‏ البرادعي‏'‏ لقضية الملف النووي الإيراني ومدي التزامه بالجوانب التقنية والقانونية لعمله ولطبيعة عمل الوكالة الدولية ذاتها‏.‏
ويمكن القول أن النظرة الموضوعية لتناول‏'‏ البرادعي‏'‏ لهذه الأزمة تؤكد أن الوكالة الدولية قد تعاملت مع المشكلة النووية الإيرانية بحرفية شديدة تداخلت فيها الرؤية السياسية المحايدة مع الجوانب التقنية المعقدة مما أنتج مرونة هائلة في التعاطي مع هذا الملف دون الإخلال بحدود المسئولية والانضباط بطبيعة عمل الوكالة من الناحيتين الفنية والقانونية إضافة إلي ضمان عدم تحول إيران لدولة ذات قدرات نووية متقدمة قد تستخدم في تطوير برامج تسليح نووية‏.‏
فقد أعطي البرادعي أولوية أكبر للإجراءات الوقائية بشكل يجعل الوكالة دائما رقيبا علي أي عمليات في إيران بعد أن قامت الوكالة بدورها المنوط في الكشف عن كل مصادر المعدات والمكونات التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم ووضع العشرين جهازا للطرد المركزي تحت إشراف الوكالة واستجابة إيران لكافة إجراءات التفتيش ودخول جميع المواقع دون استثناء منذ نوفمبر‏2003‏ وحتي الآن كما أن‏'‏ البرادعي‏'‏ أكد أن القرار الأخير للوكالة والذي لم يهدد إيران صراحة بأي عقوبات لا يعني حسم كل القضايا العالقة مع طهران لأن ذلك يحتاج عامين كاملين وعليه فإن الملف الإيراني لم يغلق بعد‏.‏
وتتوافق هذه الإجراءات مع الهدف الأساسي لعمل الوكالة منذ نشأتها عام‏1957‏ وهو تنظيم وتشجيع الاستخدام العملي للطاقة الذرية للأغراض السلمية وهو ما أشارت إليه المادة الرابعة من اتفاقية حظر الانتشار النووي أيضا شرط أن يكون هذا الاستخدام في حدود تقنية مقبولة لا يجوز تجاوزها منعا للتحول إلي أنشطة أخري عسكرية علي أن تقوم الوكالة الذرية بعمليات الرقابة والتحقق من سلميتها وأمنها التقني‏.‏
ومن جانب آخر لا تشير موافقة البرادعي وتأييده لاتفاق‏'‏ الترويكا‏'‏ الأوروبية مع إيران في‏8‏ نوفمبر الماضي حتي وإن قابلته الولايات المتحدة برد فعل باهت إلي أي إخلال قانوني بالنصوص الأساسية لعمل الوكالة بل العكس تماما من ذلك إذ أنه من أبرز وظائف الوكالة أن تقوم بدور الوسيط لتقديم الخدمات أو التسهيلات من عضو لآخر وتدير إجراءات وقائية بغرض ضمان أمن المواد الانشطارية وغيرها من المواد والمعدات والمعلومات التي تقدم بواسطة الوكالة أو بناء علي طلبها أو تحت إشرافها أو رقابتها كي لا تستخدم بطريقة تدعم أي غرض عسكري وتطبق هذه الإجراءات علي أي اتفاق ثنائي أو دولي في مجال الطاقة الذرية أو بناء علي طلب دولة بالنسبة لأي نشاط لهذه الدولة في هذا المجال كما يعكس تأييد‏'‏ البرادعي‏'‏ لهذا الاتفاق رؤيته الواقعية لإمكانية السيطرة الدولية علي دورة الوقود النووي في المفاعلات المدنية الإيرانية والحصول علي ضمانات من طهران بإدامة تعليق تخصيب اليورانيوم واستمرار عمليات التفتيش التي تسير بشكل صارم‏.‏
ورغم أنه لا يمكن استبعاد وجود نيات إيرانية ـ باتت أقرب منها إلي الأفعال ـ للتحول عن الاستخدامات المدنية وقد حذر منها‏'‏ البرادعي‏'‏ إلا أنه ومن الناحية الفنية البحتة لم تكتمل الأدلة الدامغة لإدانة إيران بمخالفة بنود معاهدة حظر الانتشار النووي لأن الفارق بين القدرات النووية المدنية والعسكرية ليس كبيرا أو واضحا بصورة جلية فالنظام الأساسي للوكالة يشير إلي وجود عدد هائل من المواد الحساسة والمعدات ذات الاستخدام المزدوج مثل اليورانيوم متعدد النظائر أو المادة الانشطارية الخاصة كالبلوتنيوم‏239‏ وغيره ومصانع إعادة المعالجة وفصل نظائر اليورانيوم ومصانع إنتاج الماء الثقيل فضلا عن البيانات والبحوث العلمية الأساسية وهو ما أدي لصعوبة استصدار حكم فني ما حتي الآن‏.‏
وإزاء هذه الأمور الموضوعية الواضحة لم تستطع الولايات المتحدة أن تشكك في كفاءة‏'‏ البرادعي‏'‏ أو إخلاله بالقواعد الفنية أو القانونية الواجبة التطبيق في عمل الوكالة كما لم تتمكن رغم تنصتها علي محادثاته مع المسئولين الإيرانيين أن تتصيد أي خطأ له بالتعاون أو التهاون مع إيران بل شكل ذلك تعزيزا لثقة المجتمع الدولي في حياده ونزاهته ومن ثم اقتصرت الأسباب الأمريكية المعلنة لإبعاد‏'‏ البرادعي‏'‏ من منصبه علي أن ذلك يأتي في إطار سياسة تقييد مدة رئاسة منظمات الأمم المتحدة بحيث لا تتعدي فترتين والتي تتبعها مجموعة‏'‏ جنيف‏'‏ المؤلفة من عشر دول تدفع الجزء الأكبر من ميزانية الأمم المتحدة‏.‏
أما فيما يختص بشأن التقارير غير الرسمية الصادرة عن بعض المصادر الغربية المختلفة عن قيام مصر ببعض الأنشطة النووية بعيدا عن رقابة الوكالة فإنه يمكن القول أنه حتي الآن ليس ثمة رابط قوي بينها وبين الضغوط الأمريكية علي البرادعي فالإدارة الأمريكية تري أن مصر دولة مسئولة وموقعة علي معاهدة حظر الانتشار النووي ويشير مسئولو الوكالة إلي إن مصر ليست موضع تحقيق لأنها متعاونة بالقدر الكافي في مسائل زيارة المواقع واستجواب العلماء ومراجعة التقارير الحكومية ذات العلاقة ببرنامج الطاقة الذرية الخاص بمصر‏.‏
وبالرغم من أن‏'‏ البرادعي‏'‏ لا يزال يحظي بتأييد الصين وبعض الدول الأوروبية والعديد من دول عدم الانحياز إلا أن ذلك قد لا يكون كافيا لإثناء الولايات المتحدة عن مواصلة جهدها للتخلص من البرادعي وتنصيب بديلا له يكون أكثر اقترابا من المواقف الأمريكية خاصة أن الأمر لا يتطلب أكثر من اثني عشر صوتا من مجموع خمسة وثلاثين صوتا هم أعضاء مجلس محافظي الوكالة لمنع التجديد له وهو ما قد يشكل مدخلا للخروج عن السياسة الوقائية التي يتبعها‏'‏ البرادعي‏'‏ في التعامل مع قضايا منع الانتشار النووي‏.‏