يبدو حتى الآن أن اتجاه الحكم تجاه مسألة قانون الانتخابات التشريعية اللبنانية يميل نحو إقرار الدائرة الصغرى التي تضغط المعارضة لإقرارها في مشروع القانون الذي يفترض إحالته إلى مجلس النواب لإقراره، وإجراء الانتخابات على أساسه. والمقصود هنا إدارياً واستطراداً تمثيلياً بالدائرة الصغرى اعتماد الحدود الإدارية الحالية للقضاء كدائرةٍ انتخابية.
وفق مانصّ عليه قانون العام 1960 الذي يعتمد تقسيم لبنان إلى 26 قضاءً، مع مراعاة تقسيم بيروت إلى عدة أقضيةٍ تعالج مشكلة الاختلالات الديموغرافية واستطراداً الطوائفية الناتجة عن مفاعيل الحرب الأهلية اللبنانية.
يعني ذلك في القراءة الأولى أنه قد تم صرف النظر عن الدائرة الوسطى التي يحبذها رئيس الحكومة عمر كرامي ويدفع باتجاهها، والتي تعتبر حصيلةً تلقائيةً لتفسير مانصّ عليه اتفاق الطائف من اعتماد المحافظة دائرةً انتخابيةً بعد إعادة النظر بالتقسيمات الإدارية التقليدية، بقدر مايعني استبعاد اقتراح المحافظة الراهنة كدائرةٍ واحدةٍ وفق نظام الانتخاب النسبي من أجندة اتخاذ مشروع القانون .
والذي يتبناه رئيس مجلس النواب نبيه بري، وصرف النظر نهائياً عن اعتماد لبنان كله دائرةً انتخابيةً واحدةً وفق نظام الانتخاب النسبي، أو عن انتخاب مجلس نيابيٍ وطنيٍ دون أية قواعد تمثيلية طوائفية وجهوية مقابل تخصيص مجلس شيوخ بتمثيل تلك التكوينات، في إطار هيئة إلغاء الطائفية السياسية.
يبدو التوجه إلى اعتماد الدائرة الصغرى أي القضاء كدائرةٍ انتخابيةٍ في الظاهر وكأنه استجابة لمطالب 65 بالمئة من المشاريع المقدمة إلى وزارة الداخلية بخصوص مشروع قانون الانتخاب، وتنطوي هذه الاستجابة في عرف منظّريها على اعتماد المساواة والموضوعية بدلاً من الاعتباطية، والإيحاء بالابتعاد عن المصلحية ومحاباة فريقٍ سياسيٍ على حساب فريقٍ آخر.
وبالتالي تقوم على رفض مايعرف في القانون الدستوري بطريقة «الجيريميندر» التي تنتسب إلى البردج جيري حاكم ولاية ماساشوستس في الولايات المتحدة الأميركية الذي أمعن في العام 1842 بتقسيم وقص وتخييط الدوائر الانتخابية بشكلٍ مصطنعٍ كي يضمن نجاح حزبه في الانتخابات.
لقد تمرست الطبقة اللبنانية الحاكمة التي أدارت تسوية الطائف لتحقيق مصالحها الخصوصية، واحتكارها لمكامن القوة والسلطة بطريقة «الجريميندر»، في ظل تغطية الراعي الإقليمي السوري لنظام الطائف.
غير أن التوجه صوب الدائرة الصغرى طريقة« جريمندرية» جديدة، هي سياسية في جوهرها، وتقوم على محاولة احتواء المعارضة «البريستولية»، وتلبية مطالب قياداتها الطائفية، ولاسيما البطريرك الماروني مار نصر الله صفير وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. وهما من أقطاب تسوية الطائف والنظام الذي نتج عنها.
وتبدو الطريقة «الجريمندرية» الجديدة والمنبعثة تحت يافطة الموضوعية وكأنها محاولة متأخرة لتصحيح التمثيل المسيحي الذي تلاعب به نظام الطائف وأقطابه.
وتتم هنا لصالح ضمان احتكار مراكز القوة والنفوذ والتمثيل في أقضية يغلب عليها الصفاء الطوائفي الأحادي أو الثنائي، فالدائرة الانتخابية على مستوى القضاء تتميز دوماً بهيمنة المحلية والجهوية، أما مشاريع وأفكار وتصورات النخب والتجمعات الوسيطة العابرة للطائفية فيتم هنا التضحية بها لصالح التسوية الجديدة وعنوانها في «تصحيح التمثيل».
إن طريق هذه التسوية التي ستبت الحكومة بمشروعها في السابع والعشرين من الشهر الجاري قبل عرضها على مجلس النواب لإخراجها في صورة قانون ليس سهلاً، فهو قد اصطدم وسيصطدم بالتأكيد بمصالح وزراء كثيرين ونواب أكثر يتضرر نفوذهم التمثيلي بالدائرة الصغرى.
وليس لأنهم مع تطوير النظام السياسي اللبناني وتصحيح التمثيل فيه، فأمراء نظام الطائف سواء منهم اليوم في صف الموالاة أم في صف المعارضة.
وهم من أمراء الحرب والمال والتراص الطائفي قد كشفوا عن مهاراتٍ استثنائيةٍ في تعطيل التطور «الطبيعي» للنظام السياسي اللبناني صوب الاتجاه الصحيح بإلغاء الطائفية السياسية بدعوى أنه يهدد التوازن الوفاقي اللبناني، وينصر أكثريةً على حساب غبن الأقلية.
وبالتالي يبقى السقف هنا محكوماً بالعدالة الطوائفية التي لاحاجة للبرهان أنها لاتعبر عن مصالح الطوائف نفسها كتكويناتٍ اجتماعيةٍ تاريخيةٍ بقدر ماتعبر عن مصالح مقاوليها.
وتسوية الدائرة الصغرى وإن كان هدف بعبدا منها احتواء المفاعيل الداخلية للقرار 1559 عبر استيعاب المعارضين في نظام الطائف، وتوسيع رقعة ائتلافه السلطوية والشعبية المزعومة هي تسوية تستجيب إلى منطق توازن القوى ومحاصصتها في الكعكة أولاً وأخيراً.
وهي في ذلك صفقة من صفقات نظام الطائف المترنح الذي يجمع كل أقطاب النظام على عدم تطبيق جوهره المتمثل بالمضي في اتجاه إلغاء الطائفية السياسية، ويكشف عن مهارات التلاعب بالانقسامات اللبنانية وإدارتها لصالح مقاولي الطوائف، أكثر ممايعبر عن بناء لبنان الجديد.