إن مجتمعات الخليج هي أنموذج للمجتمعات التي حافظت على أصالتها على الرغم من كل مظاهر المدنية التي تحيط بها. فهي مجتمعات أبقت على الكثير من قيمها القبلية البدوية على الرغم من الطفرة الاقتصادية الهائلة التي غيرت ملامح هذه المجتمعات وخلقت منها مجتمعات متمدنة تختلط فيها مظاهر الحضارة الغربية مع قيم الحضارة الشرقية الأصيلة.
ولكن يبدو أن هذا المزيج الحضاري قد أثر سلبا في هذه المجتمعات التي لم تستطع التنمية الاقتصادية فيها أن تتواءم مع تنمية اجتماعية مماثلة. فأصبح الخليج خلال العقدين الماضيين مسرحا للعديد من الظواهر السلبية الخطرة التي ان لم تجد لها مجتمعات الخليج حلا جذريا سريعاً فسوف تهدد الوحدة الاجتماعية لهذه المجتمعات. على رأس هذه الظواهر السلبية الخطرة تقف الأصولية والإرهاب والتطرف والعنف كإفرازات خطيرة للمتغيرات في منطقة الخليج وهي إفرازات قد تهدد الوحدة الاجتماعية والتي هي من أهم عوامل تماسك النسيج الاجتماعي في هذه الدول. فهل هذه الظواهر هي ردة فعل للتنمية السريعة التي شهدتها دول الخليج المحافظة أي إنها نتيجة لفشل النظام الاجتماعي في التأقلم مع التنمية الاقتصادية ؟ أم أنها جرس إنذار طبيعي حتى يبدأ المجتمع في العودة إلى أصوله؟ وهل هذه الظواهر هي ظواهر جديدة في تاريخ منطقة الخليج العربي أما أنها قديمة ولكنها تعاود الظهور بين الفينة والأخرى بأشكال جديدة و بلباس آخر وبمفاهيم عصرية؟ ولماذا اكتسبت بعضا من هذه الظواهر، كالإرهاب مثلا، القبول من بعض فئات المجتمع؟ وما مدى تهيؤ مجتمعات الخليج لمواجهة هذه الظواهر السلبية والقضاء عليها دون المساس بالوحدة الاجتماعية لهذه المجتمعات ومع المحافظة على الأصالة فيها؟
منذ ظهور البترول فيها شدت مجتمعات الخليج الأنظار بوصفها مجتمعات رفاهية ذات أنظمة محافظة واستقرار سياسي كبير. وكانت هذه المجتمعات بعيدة كل البعد عن تلك الطروحات التي يعج بها العالم العربي كالاشتراكية مثلا. وبدا واضحا أن مجتمعات الخليج قد اختارت لنفسها السير على نهج مختلف نابع من ثقافتها البدوية القبلية بكل ما تحويه من قيم أصيلة. وبدأت دول الخليج تنمية اقتصادية هائلة هدفها إحراز تقدم اقتصادي كبير وفي زمن قليل. وكان لابد لهذه التنمية السريعة أن تفرز آثاراً سلبية وأن ينتج عنها ظواهر اجتماعية والتي هي عادة نتيجة طبيعية لتطور أي مجتمع. ولكن ما لم يدر بخلد هذه المجتمعات أن تكون هذه الظواهر مزمنة وأن تصبح بعد ذلك خطرا ليس فقط على هذه المجتمعات ولكن على المنطقة بأسرها.
فمنذ نهاية السبعينات بدأت دول الخليج تشهد حوادث عنف وتطرف مقلقة قامت بها عناصر معارضة للأنظمة السياسية. وبدا واضحا أن الأصولية في هذه المجتمعات بدأت تحوز على قبول شعبي وإن كان بسيطا بعض الشيء. فقد بدأت هذه الحوادث بحادث الحرم المكي ثم ببعض الحوادث الداخلية المتفرقة التي لم يلتفت لها محليا على اعتبار أنها حوادث فردية لا تعني الشيء الكثير. ولم تتخذ دول الخليج حينها إجراءات حاسمة لوأد تلك الظاهرة في مهدها قبل أن تستفحل وتصبح وبالا على المجتمع. لقد عالجت دول الخليج هذه الظاهرة على أساس أنها معارضة داخلية بسيطة سوف تقمع بالقوة العسكرية وينتهي الأمر. ولكن استخدام القوة العسكرية وحدها لم يكن الحل الناجع لمعالجة ظاهرة الأصولية والإرهاب، بل على العكس فقد ساهم في تفاقمها الأمر الذي انعكس سلبا على دول الخليج. فقد وظفت عناصر المعارضة التركيبة القبلية الحساسة لمصلحتها. وبات على الأنظمة السياسية أن تحارب على جبهتين، الأولى سياسية وعسكرية والثانية اجتماعية. فإذا كانت هذه الأنظمة قد نجحت سياسيا وعسكريا فهي قد فشلت اجتماعيا إذ لم تستطع التعامل الاجتماعي الحذر مع تلك العناصر التي سرعان ما حازت على التأييد من قبل بعض الفئات الشعبية التي وقفت الى جانبها بدافع اجتماعي وقبلي بحت.
وفي بداية الثمانينات بدأت دول الخليج تشهد ازدياداً في العمليات الإرهابية المتفرقة التي عزيت إلى عدم الاستقرار العام الذي كانت تشهده منطقة الخليج آنذاك. فالحرب العراقية -الإيرانية، التي أشعلها صدام حسين بدوافع سياسية واثنية وايديولوجية معقدة، كانت على أشدها. وقد أفرزت تلك الحرب العديد من السلبيات التي انعكست على دول الخليج المجاورة والتي سرعان ما تأثرت بهذه السلبيات سياسيا واجتماعيا.
وبدا واضحا بأن تلك السلبيات سوف تشعل بذور عدم الاستقرار في منطقة الخليج بأسرها. وبدأت دول الخليج، حتى المستقرة منها، تواجه حوادث عنف وتطرف وإرهاب متعددة بدأت في الكويت وانتهت في البحرين. وعزي هذا الوضع في دول الخليج العربي حينها إلى مواقف بعض هذه الدول من الحرب العراقية- الإيرانية والى تداخلات إقليمية متعددة. وظنت القيادات السياسية في دول الخليج العربية بأن هذا الوضع سوف ينتهي بانتهاء تلك الحرب ولملمة جروحها. ولذا على الرغم من مسارعة دول الخليج لاتخاذ إجراءات عسكرية، كزيادة الانفاق على التسلح مثلا، إلا أن هذه الدول لم تتخذ إجراءات داخلية اجتماعية لحفظ مجتمعاتها من الآثار السلبية لهذه الحرب. ولذا نشطت عناصر المعارضة متخذة من جو عدم الاستقرار السياسي العام بيئة صالحة لها لنشر ايديولوجيتها ومتخذة من التركيبة الاجتماعية غطاء حامياً لعملياتها الإرهابية. ووجدت أنظمة الخليج صعوبة وحساسية في التعامل مع هذه العناصر: هل تتعامل معها كمعارضة سياسية أم معارضة اجتماعية. ووجدت هذه العناصر، في ظل هذا التردد وعدم الحسم الحكومي، فرصة لها في التغلغل بين بعض فئات المجتمع وحازت بالتالي على القبول الذي أعطى لنشاطاتها الشرعية. وهكذا أصبحت مجتمعات الخليج في الثمانينات مسرحا للعديد من ظواهر العنف والإرهاب.
وعندما غزا صدام الكويت عام 1990 كان الجو العام في منطقة الخليج مهيأ لهذه الفوضى الايديولوجية والاجتماعية التي سادت بعد ذلك، بل ومساعدا لها. فلم تحسم أي من دول الخليج صراعها مع القوى الداخلية في بلدانها على الرغم من أنها حسمت خارجيا مواقفها من شتى أنواع الايديولوجيات. وهكذا كان الوضع الاجتماعي الداخلي في دول الخليج هشا مقارنة بالوضع السياسي والاقتصادي. وكان من الطبيعي أن تنتج عن تلك الهشاشة الاجتماعية صراعات كانت إفرازاتها الطبيعية العنف والتطرف والإرهاب والأصولية. وكان من الطبيعي أيضا أن ينتج عن ذلك الصراع رفض للوجود الأجنبي الذي جاء مصاحبا لغزو الكويت ليس فقط لكونه مسيحيا على أرض مسلمة ولكن أيضا لكونه يناقض الأصالة والمحافظة التي عرفت بها منطقة الخليج. وهكذا نتج عن كل ذلك التناقض الاجتماعي حالة من الرفض تمثلت بعد ذلك في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
إن أحداث سبتمبر/أيلول ما هي الا نتيجة لذلك الصراع بين الأصالة والأصولية ذلك الصراع الذي أخفقت دول الخليج في وضع حل جذري له أو حتى التنبؤ بإفرازاته الطويلة المدى على مجتمعاتها وعلى العالم أجمع. ومن المؤكد أن الأصولية والإرهاب والعنف في هذه الدول ظواهر لن يتم القضاء عليها بسهولة. ولكن كأي ظواهر طفيلية لن تنمو إلا في الأجواء غير الصحية. فإذا ما نجحت دول الخليج في توفير بيئة اجتماعية صالحة فلن تجد هذه الظواهر الطفيلية التربة الصالحة للنمو. إن الحفاظ على الأصالة مبدأ جميل يجب التمسك به ولكن تظل الأصولية هي الخطر المحدق الذي يواجهه أي مجتمع عربي حديث.