حدَّد القرآن الكريم أهداف الحجّ الى البيت الحرام بثلاثة أمور: العبادة الشعائرية: (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا) «آل عمران: 97» - والارتباط بأبي الأنبياء ابراهيم رائد التقليد التوحيدي، ومدخل العرب الى مواريث الغيب الخالدة (وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل...) «البقرة: 127» - واجتراح المنافع والفوائد المتعددة وأهمّها المشاركة في حياة الأمة وسياحاتها وتجاراتها: (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍ عميق ليشهدوا منافعَ لهم) «سورة الحج: 27 - 28».
تُطل فتنة الرحلة من الآية الثالثة (يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر...)، وقد ظلَّ هذان الأمران مركز الاهتمام طوال قرون التجربة الإسلامية الوسيطة، وبعض الحديثة: الرحلة من أجل الحج، أو اتخاذ الحج مناسبةً للرحلة والتجول. وفي حين ظلَّ الحجّ لعامة المسلمين هدفاً أوحد يؤدونه ويعودون لديارهم؛ صار بالنسبة الى التجار والعلماء وطلاب العلم مناسبةً لأداء الفريضة من جهة، والسياحة الاعتبارية من جهةٍ ثانية، والرحلة في طلب العلم من جهةٍ ثالثة. ولا ندري من بدأ تقليد الرحلة في طلب العلم. ثم مدى شمول هذا الهدف، أي هل هو مقصود على تتبع الحديث النبوي وجمع مروياته أو أنه يشمل سائر العلوم الإسلامية. هناك من يقول ان الرحلة بدأت في زمن الصحابة، حيث كان صغارهم يقصدون كبارهم، والمعروف ان عمر بن الخطاب سمح بعد ترددٍ لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يغادروا المدينة، ويستقروا في الأمصار. أما ابن سعد في «الطبقات» فيذهب الى ان عمر هو الذي أرسل الصحابة الى الأمصار الجديدة لكي يعلّموا الناس دينهم. وهكذا فالذين ترحلوا في طلب العلم في عصر الصحابة انما قصدوا الأمصار من المدينة ومكة، لتعلم ما انفرد به الصحابة الذين استقروا في البصرة والكوفة ومصر والشام. بيد أن «الرحلة» في طلب العلم ما تحولت الى مثالٍ إلاّ في زمن التابعين وتابعيهم. وقد كان الأكثر في الرحلة رواية الحديث النبوي أو حمله. لكن هناك من ذهب الى المدينة المنورة لرواية «أقضية عمر» أو اجتهاداته. ويمكن القول انه في عصر تابعي التابعين (النصف الأول من القرن الثاني الهجري) استعادت المدينة المنورة جاذبيتها للرحلة والزيارة. الزيارة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، والرحلة في طلب العلم من «الفقهاء السبعة»، الذين كانوا هم أنفسهم يجتمعون الى زملائهم في موسم الحج. ويمكن اعتبار مالك بن أنس (93 - 179هـ) ذروةً من ذُرى الرحلة والمسعى، فقد قصده الطلاب من سائر الأنحاء، وأخذوا عنه الحديث والفقه في الوقت نفسه. ومع بدايات القرن الثالث الهجري، صار هناك من ينص على أن فلاناً رأى فلاناً أو أخذ عنه أثناء الحج، أو أنه طلب العلم في المدينة أو مكة وحج ضمناً. وهذا ملحوظ في كتابي الطبقات لابن سعد (- 230هـ)، والتاريخ ليعقوب بن سفيان البسوي. وبعد القرن الثالث، وكان الحديث النبوي قد دُوّن، عادت الرحلة لتكون من المدينة واليها، وصارت في الأكثر «دراسة» للفقه والقراءات، ثم أُنشئت النظاميات العشر، والمدارس الأخرى فصار «الانتقال» وليس الارتحال هو القاعدة من أجل الدراسة، مثلما دأب الشبان عبر القرون على قصد القاهرة مثلاً للدراسة في الأزهر.
على أن الرحلة (المقرونة بالحج أو التي يتخللها الحج ولا يستوعبها) يمكن أن تنفرد أو تكون هي الهدف، وهذا واضح لدى جغرافيي القرون الثلاثة (3 - 5هـ) الذين تُحس في نصوصهم لذة الرحلة، مثلما نتحدث اليوم عن لذة الكتابة أو السرد. وحتى «العلماء» صاروا يكتبون عن رحلتهم للحج، ويصفون الطُرق والمسالك، ويذكرون في الوقت نفسه العلماء في كل مكانٍ مروا به. ولدى هؤلاء تتوسع الرحلة، غالباً بعد الحجّ، بحيث تشمل الشام ومصر، أو يصبح الحج بدايةً للرحلة، بل ويصبح ذكرُ العلماء أو المزارات في البلدان المختلفة ذريعة وليس هدفاً، والهدفُ هو الرحلةُ من أجل الرحلة. ويبقى التمييز مع ذلك. فالعلماء المترحلون لا يهتمون كثيراً لمعالم البلدان؛ بل للعلماء فيها، بل انهم أحياناً لا يذكرون غير زملائهم ورصفائهم في المدن المختلفة. بينما يرى الرحّالة «المحترفون» في الرحلة تحولاً في حياتهم، وتجربةً انسانيةً لا يمكن نسيانها أو تجاهلها، وهم يكتبون عن ذلك باعتبار الرحلة تحولاً وجودياً لا يسعهم تجاهله، وهو الذي صيرهم في الحقيقة كُتّاباً ومُبدعين. فحتى الهادئ والبارد ابن خلدون، تحس ان سحر الرحلة يسيطر عليه، وتمر صفحات في رحلته «شرقاً وغرباً» تسيطر فيها المشهدية مثل مشهدية الرحلة والصيد في شعر شعراء الجاهلية.
والبحر والصحراء موضوعان مخوفان ومحببان لدى الرحّالة، ولدى العلماء. بيد أن الموضوع الأساس هو المدينة أو الحاضرة. والمدينة الإسلامية الوسيطة لدى المترحل والزائر بيئة للرفاه والاستقرار والتنور؛ لكنها قبل كل شيء للألفة والبشاشة والاستيعاب والاحتضان. ويصر أكثر الرحالة على أن المدينة المنورة معالم وموقعاً وسكاناً أكثر ألفةً وتودداً من مكة، أو قُل انها رمز الحاضرة الإسلامية الذي لا يمكن تجاهله ولا نسيانه. ظلَّ الحج مقروناً بالرحلة، كما سبق القول، لقرونٍ طويلة. واعتبره المترحلون أو اعتبروها بدايةً أو رمزاً لتحولٍ في حياة الأفراد الذين يحجون ويترحلون أو يترحلون لأنهم حجوا. ثم إنّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، شهد ظهور وظيفة جديدة للحج اضافةً للعبادة والرحلة، وهي اعتباره مؤتمراً له شأنٌ سياسي وثقافي. ويبدو ان هذا الأمر ظهر في الوعي مع ضعف الدولة العثمانية، والحاجة للتشاور ومراجعة النفس والتداول في الشأن العام، وقد كتبت رحلات عدة للحج حقيقة أو متخيلة تظهر فيها فكرة المؤتمر الذي حصل وأصدر قراراتٍ أو ينبغي أن يحصل ويُصدر قراراتٍ وتوصياتٍ تخرج من المأزق. وكتاب «أم القرى» للكواكبي واحد من تلك المشروعات التي أوحى بها الاجتماع الكبير للمسلمين في رحاب مكة والحَرَم.
أما محمد أسد (اليهودي المعتنق للإسلام)، وأما جلال آل أحمد (اليساري الإيراني المقبل على الإسلام) فيستعيدان معاني التحول الجذري التي كانت للحج لدى بعض رحالة وصوفية العصور الوسيطة. فالطريق الى مكة لدى ليوبولد فايس هو طريق الى الإسلام، أما آل أحمد فقد تحول الى «قشةٍ في الميقات»: (وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك وأرِنا مناسكنا وتُب علينا انك أنت التواب الرحيم)، صدق الله العظيم.