يتخذ النقاش حول العراق مسارا جديدا. فالانتخابات العراقية المقرر اجراؤها في 30 يناير (كانون الثاني)، والتي اعتبرت مؤخرا نهاية طريق، توصف بأنها نقطة انطلاق لحرب أهلية. فالتوقيت وترتيبات الاقتراع اصبحت مثيرة للجدل.
كل ذلك وسيلة لتجنب مطلب وضع استراتيجية خروج، وهو ما يعني بالنسبة لعديد من النقاد نوعا ما من التوقيت الزمني الواضح للجهود الاميركية. ونرفض هذا المفهوم. وعلينا استيعاب تداعيات مفهوم «استراتيجية خروج»، ولا يجب تلفيق العواقب. ان المطلب الحيوي بالنسبة لسياسة خروج مقبولة، هو نتائج معززة وليس حدا زمنيا اجباريا. لأن النتائج في العراق ستشكل العقد القادم من السياسة الخارجية الاميركية، فيما سيؤدي الانهيار الى سلسلة من التشنجات في المنطقة، حيث يسعى الراديكاليون والاصوليون للسيطرة وسط مساندة الظروف لهم. وكلما تواجد سكان مسلمون بإعداد كافية، تتجسد العناصر الراديكالية. ومع استيعاب العالم لهذه الحقيقة، فإن الشعور بالتوجه سيتعرض لعراقيل بسبب التشوش الاميركي في العراق. ان انسحابا اميركيا متعجلا سيؤدي بالتأكيد الى حرب اهلية، تتعدى ما حدث في يوغوسلافيا، وستزداد تعقيدا مع تصعيد الجيران لتورطهم الحالي، الى تدخل واسع النطاق.
ان النتائج المرجوة لا تتحقق فقط عن طريق تجنب عواقب الفشل. فهي تتطلب استراتيجية قابلة للتطبيق: تطبيق الموارد على اهداف يمكن تحقيقها. ومع انتخابات 30 يناير، فإن القضايا المطروحة في العراق تتحول تدريجيا الى قضايا سياسية. ان مسؤوليتنا هي الوضوح بخصوص نوعية النتائج المتطابقة مع قيمنا وامننا العالمي. ومسؤوليتنا تجاه العراقيين، هي تقديم نتيجة يمكن ان تدعم قدرتهم على تشكيل مستقبلهم.
ان الجزء الذاتي للنجاح يسهل تحديده نسبيا. فهو تشكيل حكومة في العراق تعتبر، بدرجة كافية، مشروعة من قبل الشعب العراقي، للسماح بتأسيس جيش قادر وراغب على الدفاع عن مؤسساته. وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه عن طريق تحديد موعد عشوائي، والذي وبغض النظر عن أي شئ آخر، سيؤدي الى تشويش الحليف والعدو. ولا يمكن فصل الجهود السياسية والعسكرية. لقد اثبت تدريب جيش وسط فراغ سياسي انه غير كاف. واذا لم نتمكن من تنفيذ المهام السياسية والعسكرية، فإننا لن نتمكن من انجاز أي منها.
ولكن ما هي مثل هذه الحكومة؟ المتفائلون والمثاليون يفترضون امكانية تشكيل مجموعة كاملة من المؤسسات الديموقراطية الغربية، في اطار زمني تعززه العملية السياسية الاميركية، ولكن العراق مجتمع تمزقه قرون طويلة من النزاعات الدينية والعرقية، وخبرة محدودة، اول لا خبرة على الاطلاق بالمؤسسات النيابية. والتحدي هو تحديد الاهداف السياسية، التي حتى مع عدم تحقيقها للهدف النهائي، فإنها تمثل تقدما هاما وتسعى لتحقيق الدعم عبر الجماعات العرقية المختلفة. ومن هنا يجب اعتبار انتخابات 30 يناير المرحلة الاولى لعملية تطوير سياسية من الاحتلال العسكري الى الشرعية السياسية.
ويشير المتفائلون ايضا الى انه، وبما ان الشيعة يمثلون 60 في المائة من السكان، والاكراد ما بين 15 الى 20 في المائة، وبما ان الطرفين لا يريدان سيطرة سنة، فإن الاغلبية الديمقراطية تتشكل بطريقة اوتوماتيكية. وطبقا لوجهة النظر تلك فإن القيادات الشيعية العراقية تقدر فوائد نشر الديمقراطية والدولة العلمانية، بمراقبة عقبات غياب تلك العناصر في ظل الحكم الديني لشيعة ايران، فيما وسيكون المجتمع التعددي الذي يقوده الشيعة حصيلة سعيدة حقا. ولكن ينبغي أن ننتبه الى عدم السماح بأن يكون جعل السياسة القائمة على الرغبات معيارا للفكر. واذا كان للعملية الديمقراطية أن توحد العراق سلميا، فإن الكثير يعتمد على الكيفية التي تحدد بها الأغلبية الشيعية حكم الأغلبية.
وحتى الآن بذل الزعماء الشيعة البارعون، الذين نجوا بصعوبة من عقود من طغيان صدام حسين، جهودا دؤوبة لعدم توضيح أهدافهم. وقد اصروا على اجراء انتخابات مبكرة، والحقيقة ان موعد الثلاثين من يناير حدد على أساس ما يقرب من الانذار النهائي، من جانب المرجع الشيعي علي السيستاني. وحث الشيعة أيضا على اتخاذ اجراءات انتخابية اعتمادا على قوائم المرشحين، التي تتعارض مع المؤسسات السياسية الفيدرالية والاقليمية.
وسيجعل التطبيق الاستبدادي لحكم الأغلبية من الصعب تحقيق الشرعية السياسية. وستكون الأقلية الكردية والجزء السني من البلاد في معارضة دائمة.
لقد نشأت الديمقراطية الغربية في مجتمعات متجانسة، ووجدت الأقليات حكم الأغلبية مقبولا، لأن لديهم آفاقا في ان يصبحوا أغلبية، وتواجه الأغلبية تقييدا في ممارسة سلطتها بسبب حالتها المؤقتة، وبسبب الضمانات القضائية للأقلية. ومثل هذه المعادلة لا تفعل فعلها عندما يكون وضع الأغلبية قائما بشكل دائم على أساس الانتماء الديني، ومثقلا بالاختلافات الاثنية وعقود من الدكتاتورية الوحشية. ان حكم الأغلبية في مثل هذه الظروف يدرك باعتباره بديلا عن اضطهاد الضعيف على يد القوي. وقد يجادل علماء السياسة في الدرجة التي تشكل فيها المزية العددية فارقا أخلاقيا. انها لا تستغل الأقليات ولا تقدم لها العزاء. ففي المجتمعات المتعددة الأعراق يجب ان تجري حماية حقوق الأقلية عبر ضمانات هيكلية ودستورية. ان الفيدرالية تخفف أفق الاستبداد المحتمل للأغلبية العددية، وتحدد الاستقلال الذاتي على أساس طائفة محددة من القضايا.
ويجب ألا تغرينا القسوة السنية المتصلبة والهدوء الشيعي النسبي، على مماثلة الشرعية العراقية بحكم الشيعة غير الخاضع للرقابة والتدقيق. ان سياسة أميركية عميقة لن ترهن نفسها لطرف معين، في نزاع ديني محتدم منذ ألف عام.
وستكون الجمعية الدستورية المنبثقة عن الانتخابات مستقلة الى حد ما، ولكن نفوذ أميركا يجب أن يتركز على أربعة أهداف أساسية: الأول منع أي جماعة من استخدام العملية السياسية لاقامة ذلك النوع من الهيمنة الذي تمتع به السنة. والثاني منع أية منطقة من الانحدار نحو ظروف طالبان كملاذات ومراكز تجنيد للارهابيين. والثالث منع تحول الحكومة الشيعية الى حكومة دينية، سواء كانت ايرانية أو وطنية. أما الهدف الرابع فهو ترك مجال للاستقلال الذاتي الاقليمي في اطار الدولة العراقية. ومن مصلحة أميركا ادارة حوار مع جميع الأطراف دعما لظهور زعامة علمانية من الممثلين الوطنيين والاقليميين. ويجب أن تكون حصيلة صياغة الدستور فيدرالية مع التأكيد على الاستقلال الذاتي الاقليمي. ويجب افهام أي جماعة تدفع مطالبها الى ما هو أبعد من هذه الحدود بعواقب انهيار وانقسام الدولة العراقية الى عناصرها المكونة، وبينها جنوب يهيمن عليه الايرانيون، ومركز سني اسلامي صدامي، وغزو للمنطقة الكردية من قبل الجيران.
وعلى السياسة الأميركية أن تسعى الى ابعاد ذلك الجزء من الجماعة السنية، التواق الى ممارسة حياة طبيعية، عن الجزء الذي يقاتل من أجل استعادة الهيمنة السنية. وتحتاج أميركا الى الاستمرار في بناء جيش عراقي سيكون، في ظل ظروف انبعاث سني، مؤلفا من المجندين الشيعة على نحو متزايد، وبالتالي يؤدي الى وضع لا يمكن للمعترضين السنة ان يحققوا فيه فوزا. ولكن ذلك يجب الا يتجاوز الخط وينتقل الى استبدال الدكتاتورية السنية بالحكم الديني الشيعي. انه خط دقيق، ولكن نجاح السياسة العراقية قد يعتمد على قابلية السير عليه.
وتعتمد شرعية المؤسسات السياسية الجديدة في العراق على القبول الدولي بالحكومة الجديدة. يجب أن يتم تشكيل هيئة دولية للاتصالات لغرض تقديم النصائح الاقتصادية والسياسية في عملية إعادة إعمار العراق. وستكون خطوة من هذا النوع علامة على قيادة واثقة بنفسها، خصوصا وأن أمن أميركا ومساهماتها المالية جوهرية. يجب ألا يبقى حلفاؤنا الأوروبيون واقفين في معزل، حتى عن العملية السياسية، بغض النظر عن وجهات نظرهم تجاه الأحداث التي جرت في الفترة الأخيرة. إذ أن ما سيحدث في العراق له آثاره على مستقبلهم أكثر من تأثيره على مستقبلنا. كذلك يجب عدم التعامل مع بلدان مثل روسيا والهند مع ما فيهما من جاليات مسلمة كبيرة كمتفرجين على ما سينتج في العراق في الوقت الذي قد يؤثر ذلك على استقرارهما الداخلي.
ستبقى الأهداف السياسية المرغوب في الوصول إليها نظرية حتى يتم توفير أمن كاف في العراق. ففي مناخ تسوده الاغتيالات السياسية والقتل بالجملة والنهب الواسع، حينما يكون الطريق بين بغداد ومطارها الدولي مكانا لأعمال إرهابية أو إجرامية بشكل يومي، لن يكون ممكنا لأي حكومة أن تحظى لفترة طويلة بثقة الشعب. وفي هذا الوضع يصبح التدريب وتوفير الأسلحة والعدة الضرورية للقوات المسلحة العراقية شروطا أولية تتقدم كل المساعي الأخرى، إضافة إلى خلق حوافز قوية لديها لأداء مهامها بشكل صحيح. مع ذلك فإنه بغض النظر عن نوعية التدريب والتسليح، فالجيش لن يكون قادرا على القتال إلا لحكومة تحظى بثقته. وهذا الدائرة المقفلة يجب كسرها.
من البديهي أن رجال العصابات سيحققون نجاحهم بتجنب الهزيمة. وفي العراق لا يبدو أن رجال العصابات في حالة خسارة، على الأقل ضمن المنطقة السنية. وتحتاج استراتيجية ناجحة إلى تقديم إجابة لهذه الأسئلة: هل نحن نشن حربا واحدة تتحد فيها الجهود العسكرية والسياسية في وقت واحد؟ هل تقوم المؤسسات بقيادة هذه المهام والإشراف عليها بحيث تتضمن قدرا كافيا من التنسيق؟ هل نحن نعمل بتصميم كبير لإنهاء تشكيل المؤسسات الأمنية مع وجود خطوط اتصالات رئيسية داخل المدن وما بينها، بحيث يكون ذلك متوافقا مع الحكمة القائلة إن الانتهاء من توفير الأمن في 70% من البلد أفضل من توفير 70% من مؤسسات الأمن في 100% من البلد، لأن توفر مساحات آمنة تماما، يمكن أن تصبح نماذج وعنصر جذب لأولئك الذين عانوا من المناطق غير الآمنة؟ هل نحن نصمم سياسة قادرة على تحقيق نتائج لصالح الشعب، وتمنع وقوع حرب أهلية للسيطرة على الدولة وعوائد نفطها؟ هل نحن قادرون على إبقاء الدعم الأميركي الداخلي بحيث أن تصاعد العنف المتطرف لا يؤثر على ثقة الجمهور بالحكومة الأميركية، في وقت يكون العدو على حافة الفشل؟ وهل نحن نكسب الفهم الدولي والاستعداد للعب دور إيجابي، فيما يمكن اعتباره تهديدا على مستوى الكرة الأرضية للسلم والأمن؟
سيتم قياس نجاح أي استراتيجية انسحاب مبنية على الإنجاز، لا على حدود الوقت المصطنعة من خلال تقديمها إجابات إيجابية لتلك الأسئلة. فخلال المستقبل القريب ستظل حصة كبرى من جهود محاربة التمرد ملقاة على عاتق أميركا. فأي تحول سابق لأوانه من مجال العمليات القتالية إلى مجال المهام التدريبية، قد يسبِّب ظهور فجوة تسمح للتمرد بحشد قدراته الكامنة. لكن مع تزايد عدد القوات العراقية وقدراتها، ومع بدء البناء السياسي بعد الانتخابات، ستبرز استراتيجية واقعية للانسحاب إلى السطح. لا يمكن القول إن هناك وصفة سحرية لانسحاب سريع وغير كارثي. لكن هناك الآن فرصة لنتيجة تشير إلى تحقق خطوة مهمة إلى الأمام في الحرب ضد الإرهاب، من خلال تغير يتحقق في الشرق الأوسط، وهذا يعود إلى تحقق نظام ديمقراطي على المستوى العالمي، يسود في السلم والاستقرار.

*هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في ادارة الرئيس نيكسون وجورج شولتز وزير الخارجية في ادارة الرئيس ريغان