يودع المسلمون عيد الأضحى، وينصرف البشر المجتمعون في هذه التظاهرة السنوية إلى أقطارهم، مشحونين بالروح السلامية، والتدريب على محاربة الشر. وأما التضحية بالحيوان، فكانت ترميزاً لإحياء ذكرى الإعلان الإبراهيمي قبل أربعة آلاف سنة، بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم، في حل المشاكل بالعنف، كما حصل في الحرب العراقية الإيرانية التي نحر على مذبحها مليون شاب في ثماني سنوات عجاف، أو حرب الجنوب السودانية، حيث نحر على مذبحها عشرات الآلاف من الشباب الأفريقي، تحت دعوى الجهاد، وإن كان هناك فائدة فيها بعدم العودة إليها.
لذا كان الحج في ترميزه المكثف، تدريباً سنوياً لشحن الإنسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فيحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس إلى البيولوجيا، فلا ينتف الشعر أو تقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لا تقبل الإلغاء أو التأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم.
وعندما دشن إبراهيم عليه السلام هذه التجربة، وصمدت خلال آلاف السنين، كان يريد تعميم هذه التجربة على ظهر الأرض، في كل الأوقات، لتحول الأرض كلها إلى أرض حرام، وتتحول الأشهر كلها إلى أشهر حرم. يحرم فيها سفك الدم وتقديم القرابين البشرية، في أي حرب، أو تحت دعوى الانتفاضة، أو ذبح الناس من الوريد إلى الوريد، تحت دعوى المقاومة، وهو ما دعا إليه سقراط ومن أجله مات.
الحج إذاً احتشاد تظاهرة (الإنسان) لإيقاف تقديم القرابين البشرية، وتدشين السلام العالمي من خلال هذه التجربة الإنسانية الفريدة، التي يتم فيها التدريب سنوياً على استخدام هذه (الأداة) السلمية لحل المشاكل بين بني البشر.
وعندما يرجع (الإنسان) من مركز الشحن والتعبئة الروحية، والقيام بتدريب سنوي مكرر للجنس البشري، للمحافظة على بقعة في العالم تتمتع بالحرمة المكانية الزمانية، من أجل تعميم ونشر ومد هذه التجربة الناجحة في العالم، يمكن نقل هذا الأسلوب الإنساني، ورفع مستوى الخلاف وطريقة حله إلى مستوى إنساني، بتبني الأسلوب السلمي.
وقد يتساءل أحدنا ومتى كانت الطريقة السلمية بديلاً عن توازن الرعب المتبادل، فدورات النزاع وجولات الحرب في التاريخ، بقيت بعيدة عن الاستفادة من درس الحج، في ممارسة اللاعنف وتدشين السلام؟ والجواب على هذا أن هذا الأسلوب الإبراهيمي القديم، سيبقى مصدراً للطاقة الروحية، لأنه أداة إنسانية في أسلوب حل المشاكل. ويمكن الاستفادة من هذه (الأداة) في كل حقول الصراع الإنساني، بنتائج مباركة لا تقارن بأسلوب التدمير المتبادل.

قانون العنف وقانون الحب:
العنف المتبادل في الصراع الإنساني لا يحل المشاكل بل يزيدها تعقيدا، فهو ينطلق من مغذى من مشاعر الكراهية والحقد، والخوف من الآخر، فيولد مثيله; فهذه هي آلية عمل المشاعر، فالحقد يولد الحقد، والكراهية تغذي مثيلها، والدم يفجر الدم، في دائرة صراع تمسك حلقاتها ببعضها البعض، وتغذي أطرافها نفس المشاعر، في ساحة لا تسمح إلا بوجود طرف واحد. وفي صورة وأسلوب المقاومة السلمية أو درس اللاعنف من الحج يفضي إلى التوازن وحل المشاكل، لأنها لا تعتمد آلية الكراهية التي ترتد على نفسها، بل الحب والتسامح مع الطرف الآخر، وهي صورة مشاركة، فهي استراتيجية تعتمد ترك الهامش أو الباب مفتوحاً في ظهر الآخر. ليس كسر وثني ذراع الآخر بل التقاء الإرادتين في النهاية.
ولكن لماذا تعجز آلة العنف عن حل مشاكل النزاع الإنساني، وتنجح آلية اللاعنف بشكل مدهش؟ إن هذا يدفعنا إلى تفهم الآلية السيكولوجية.
الآلية السيكولوجية لعمل العنف واللاعنف:
آلية العنف تعتمد كسر إرادة الخصم، وآلية اللاعنف والمقاومة السلمية تعتمد ليس إلغاء إرادة الآخر، بل اجتماع الإرادتين وتعاونهما. آلية العنف تعتمد مسح الآخر وآلية المقاومة السلمية تحافظ على الآخر وكل ما تريده هو إيقاظ ضميره. إن قصة القربان الموجودة في القرآن في الصراع الذي نشب بين ولدي آدم، تروي لنا أسلوبا جديدا في حل المشاكل، فالطرف الناجح تنازل عن القوة من طرف واحد، وأبدى استعداده، ليس أن يقتل الآخر، بل أن يموت دفاعاً عن الموقف السليم.
فعدم الدفاع عن النفس يحول المهاجم من بطل إلى مجرم، فينسحق تحت شعور الجريمة، إلا أن يغير موقفه فيندم ويتوب، ويكون بذلك من مات قد نقل الحياة إلى أفكاره فكسبت الخلود، وتحول القاتل بعد التوبة إلى جندي جديد لفكرة المقتول ظلماً. وهذا تكتيك لا نستطيع فهمه في ثقافتنا التي تفيدنا في رد الصاع صاعين، والسيف أصدق أنباء من الكتب. مع وجود النصوص الكثيرة في هذا الاتجاه، ولكن العمى الثقافي وضغط الوعي الانتقائي يجعل المرء لا يفهم الأشياء.
انهيار جهاز المناعة العربي في رحلة مرض خطير، ولنا أن نقرأ هنا الحرب الأهلية السودانية التي كلفت مليوني ضحية، أو (اللبنانية) التي كانت ظاهرة تحلل كامل، وانتحار داخلي عجيب، فلم يبق اتجاه أو دين أو فصيل أو حزب أو طائفة، في كامل تركيبة الفسيفساء اللبنانية، إلا وتفجرت وتناثرت في الهواء، وامتدت يد القتل إلى كل فريق، سواء من الأطراف المختلفة أو ضمن نفس الفريق، في رحلة اتجاه نحو الجنون المطبق.
التطور العالمي وحقائق القوة:
إلا أنه على الرغم من سيل القرابين البشرية، فإن هناك (بانوراما كونية) تسيطر على الرؤية، فالكون بدأ في الاستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فبدأ العالم يدخل مرحلة السلام ويودع آلهة القوة الكاذبة، وكان الانعطاف التاريخي في صباح السادس عشر من تموز يوليو عام 1945، عندما جربت القنبلة النووية للمرة الأولى، ووضع الإنسان يده للمرة الأولى على قوة استعار النجوم وتوقدها الذري، ولكننا لا نفهم هذا التطور الكوني العالمي لسببين هما: أننا فقدنا وظيفة (الشهادة)، فنحن لا نعرف ماذا يحدث في العالم، ثم إننا لا نعرف هذا العالم لأننا لم نشترك في صناعته، وأما مظاهر الحروب المشتعلة في العالم، فإن إحصائية بسيطة تظهر أنها حروب تقع في مناطق التخلف في العالم، وأن الذي يملك العلم والتكنولوجيا وأسرار الأسلحة وتقنياتها الرفيعة وإنتاجها وتطويرها، قد كف عن خوض الحروب، وأوروبا التي ذاقت مرارة الحرب وتجرعت كأسها حتى الثمالة، توقفت عن الحرب بشكل نهائي، والعداء الفرنسي الألماني التاريخي المشهور استحال إلى وحدةٍ اليوم، فالعالم الأوروبي يتحد بدون أن يخسر أحد مالاً أو زعامة أو أرضاً، ولا يهجم أحد على أحد ليوحده بالقوة، وأوروبا تتحد اليوم ليس بطريقة هتلر أو نابليون.
إن التطور العالمي في مفهوم القوة وصل إلى ثلاث حقائق أساسية: الأولى: توقف السير في طريق القوة، ومعها بطلت مقولة العسكري الألماني السابق (كلاوسفيتز) بأن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى.
والثانية: من يمتلك العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية، أدرك طبيعة هذا الانقلاب النوعي; فكف عن حل مشاكله بالقوة فلم تعد تحارب السويد في أوربا، كما فعلت في حرب الثلاثين عاماً، وبدأت أوروبا في التوحد بدون السيف ونظرية البطل الملهم وعسكرتارية بسمارك.
والثالثة: إن حروب العالم اليوم هي حروب المتخلفين، أو حملات تأديب المتخلفين، الذين لا يملكون لا التكنولوجيا المتطورة ولا قاعدتها العلمية، فضلاً عن المناخ الديموقراطي، الذي يشكل القاعدة العلمية ويفرز أدواتها التكنولوجية.
ولكن المشكلة في مرض التخلف أنه صفة وراثية، مثل قصر القامة، لا توجع أحداً ويبقى حاملها آخر من يعلم بها أنه قصير، وإذا علم بها فإن مشكلته غير قابلة للحل، لأن مصير الضآلة مكتوب في الكروموزومات.
أي إجازة مفتوحة للجهد والعقل حتى إشعار آخر..!
من الغريب أن العالم يستجيب اليوم لدعوة إبراهيم، التي أطلقها قبل أربعة آلاف سنة، ولكن المسلمين يؤدون طقوساً في حالة ذهول عن مقاصدها البعيدة، فهم لا يستفيدون من أعتى الأسلحة وأثمن كنوز الثقافة المرمية بين أقدامهم، في حالة حلم بشيء لا يمتلكونه، فهم في متحارجة مضحكة بين الزهد فيما يملكونه، والحلم بما لا يملكونه، فهم في إجازة تاريخية مفتوحة للجهد حتى إشعار آخر.
إن معالجة التخلف بامتلاك السلاح، كمن يعالج قصر القامة بامتلاك بذلة طويلة، أو تقليد صعود الجبل بتسلق ظله؟
إن عادة تسلق الظلال غير حميدة .