عبارته ــ المفتاحية والأكثر إفصاحاً عن سياساته القادمة، في يقين كاتب هذه السطور ــ تظلّ التالية: لديّ رأسمال جنيته أثناء الحملة، رأسمال سياسي، وأنوي الآن إنفاقه ... ولا أحد البتة يمكن أن يلوم الرئيس الأمريكي جورج بوش إذا أنفق من حرّ مالٍ أغدقه عليه أكثر من نصف الناخبين في أمريكا. لا ينبغي أن تعنينا كثيراً حكاية شعبيته الراهنة التي تتجاوز الـ 05% بقليل فقط، أو أنّ هذه النسبة لرئيس عشية تنصيبه للمرّة الثانية لم تُسجّل في التاريخ الأمريكي إلا للرئيس الأسبق ريشارد نكسون. هذا رجل لديه رأسمال جناه شرعاً ــ وللتذكير: لا كما فعل أيّ رئيس في التاريخ الأمريكي، هنا أيضاً ــ ودليلنا إلي سياساته القادمة واضح مثل عين الشمس في رابعة النهار...
مورين دود، المعلّقة الليبرالية الشجاعة ولاذعة القلم في نيويورك تايمز ، تدلّنا علي علم الجبر البوشي (أو البوشوي كما كان سيقول الراحل ياسين الحافظ، دلالة علي المحتوي السلبي السيئ لإسم النسبة) البسيط للغاية، والمختصر تماماً: القوّة = الحقّ Might = Right! لا تذهبوا إلي بوش من أجل تفكيك هذه المعادلة البسيطة، بل راجعوا كبيرة مخططي سياساته في السنوات الأربع القادمة: وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. صحيح أنها ذكية ومثقفة ومختصة في موسيقي براهمز والبلاشفة، ولكنها لا تعرف من الرياضيات والحساب البسيط إلا ما يقوله علم الجبر البوشي آنف الذكر. إنها، مثلاً، لا تعرف أنّ مضاعفة الصفر ألف مرّة لن تعطي حصيلة سوي الصفر، ولهذا لا تعرف أنّ ضرب مصرع 1370 جنديا أمريكيا بالرقم صفر في ما يخصّ أسلحة الدمار الشامل لن يعطي إلا قيمة الصفر في المنجزات السياسية!
أو لنأخذ مثلاً آخر في الحساب البسيط: أثناء جلسة تثبيتها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، قالت رايس إنّ 120 ألف عسكري عراقي جري تدريبهم، فردّ عليها السناتور جو بايدن أنّ هذا هراء ، وأنّها تسرع أكثر ممّا ينبغي، لأنّ الرقم الذي في حوزته لا يتجاوز أربعة آلاف! هنا مضاعفة للرقم ثلاثين مرّة، ليس استناداً علي أيّ علم آخر سوي ذلك الجبر البوشي. كذلك، حسب ما تقول دود، فات وزيرة الخارجية أن تقرأ رواية شيفرة دافنشي لكي تقف علي نوع آخر من الحساب: حين تغزو بلداً، فإنّ عليك أن تتوقّع العصيان ضدّ القوّات الغازية، وتنتظر هذه المتتالية: إذا قتلت جهادياً واحداً، فإنّ جهاديين اثنين سيحلاّن محلّه؛ وإذا قتلت ثلاثة، ستنشقّ الأرض عن خمسة؛ وأمّا إذا قتلت خمسة، فإنك ينبغي أن تنتظر مجيء ثمانية!
ومع ذلك فإنّ المرء لا يكاد يصدّق عينيه وهو يقرأ وزيرة الخارجية الأمريكية وهي تقول التالي، حرفياً: أمريكا والعالم الحرّ ملتزمان من جديد في كفاح طويل الأمد ضدّ إيديولوجية الطغيان والترهيب، وضدّ الكراهية وزرع اليأس في النفوس (...) إنّ أمريكا تقف إلي جانب الشعوب المظلومة في كلّ قارّة. ولن نعرف الراحة طالما لم يحصل أيّ شخص يعيش في مجتمع يسوده الخوف علي الحرية ... أهذا خطاب أمريكي رسمي، ولكنه يستعير لغة ثائر مثل إرنستو تشي غيفارا؟ أو لعلّه يعيد إنتاج لغة فلاديمير إيليتش لينين والبلاشفة صبيحة انتصار ثورة 1917؟ أم أنّ قتلة الديمقراطية في عشرات بلدان العالم الثالث، يرتدون اليوم عباءة الإنقاذ من الاستبداد والطغيان واليأس، وعلي الشعوب كافة أن لا تصدّق فحسب، بل أن تصفّق أيضاً؟
الحقّ أن رايس لا تغفل هذا التفصيل الذي يخصّ الشعوب، ولهذا تقول إنّ الشعوب الحرّة في كلّ مكان تبتهج بنجاح الديمقراطية علي امتداد العالم ، بفضل سياسات هذه الإدارة. غير أنّ الوقائع تقول غير ذلك، بل تشير إلي النقيض تماماً وبلا أدني اجتهاد! ففي استطلاع للرأي أجرته إذاعة BBC الدولية مؤخراً، وفي مناسبة تدشين ولاية جديدة للرئيس الأمريكي، قال 22 ألف مواطن من 21 بلداً في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية إنهم يتخوّفون من هذه الولاية الثانية، و58% منهم اعتبروا أنّ بوش سيلعب دوراً سلبياً علي السلام والأمن العالميين، وأنّ كراهية بوش تنقلب في نفوس الناس إلي كراهية للولايات المتحدة. وفي بريطانيا كانت نسبة التخوّف 64%، وفي فرنسا 75%، وفي ألمانيا 77%...
لا يبدو هذا الاستطلاع وكأنه يحرّك قيد أنملة في ثبات رايس علي إيمانها بالجبر البوشي الذي يقول إنّ القوّة تساوي الحقّ، ولا شيء سوي القوّة يمكن أن يصنع الحقّ. المشكلة أنّ قوّة الولايات المتحدة لا تبدو اليوم وكأنها تصنع الكثير من الحقّ، حتي في سياق المنطق الذي تعتمده رايس ومعظم رجال الإدارة القادمة، خصوصاً حين لا يتناقص عدد دول محور الشرّ ، بل يتزايد: من ثلاثة (إيران، العراق، كوريا الشمالية) في عام 2001، إلي خمسة اليوم (إيران، كوريا الشمالية، كوبا، بورما، روسيا البيضاء، وزمبابوي). كذلك لا يلوح أنّ نداء السماء الذي قال بوش مؤخراً إنه يهديه إلي صناعة حرّية الشعوب، سوف يسقط علي أسماع الإنسانية برداً وسلاماً.
نحن في طور من التقلّب وانعدام الثبات غير مسبوق ، يقول دافيد غوردون أحد مؤلفي تقرير أمريكي حكومي رسمي عن أحوال العالم سنة 2020، أعدّه مجلس الاستخبارات القومي في الولايات المتحدة، الجهة المعنية بوضع صانعي السياسات في صورة الأخطار التي تنتظر قراراتهم. أهمّ ما في التقرير الجديد أنّ توازن القوّة القادم في ميدان الاقتصاد سوف ينتقل إلي آسيا (الصين والهند خصوصاً)، حيث ستزداد نسبة النموّ 80% قياساً علي العام 2000، الأمر الذي سيجبر واشنطن علي إعادة النظر في أولويات سياساتها الراهنة الخاصة بأوروبا والشرق الأوسط. صحيح أنّ أمريكا سوف تظلّ القوّة الكونية الأعظم، إلا أنّ موقع القوّة النسبي الذي تتحلّي به سوف يتآكل أكثر فأكثر حسب التقرير.
إلي جانب الاقتصاد، يقول مؤلفو التقرير إنّ العالم سنة 2020 سوف يتعرّض للكثير من الأخطار الأمنية، وأنّ ارتباط البشر عبر الإنترنيت وشبكات العولمة سوف يخلق جماعات افتراضية تفرز مختلف الأشكال الجديدة من سياسة الهويات، فتزيد من تعقيدات قدرة الدول علي الحكم، وإمكانية المنظمات الدولية في التدخّل. وبالطبع، لا ينسي التقرير التأكيد علي العامل الأهمّ ربما: الإسلام السياسي، بصفة خاصة، سوف يكون له تأثير كوني ملموس علي امتداد الفترة حتي 2020، وسيلمّ شمل المجموعات الإثنية والقومية المتباعدة، ولعله سوف يخلق سلطة تتجاوز الحدود القومية ...
والتقرير يستبطن (لكي لا نقول إنه يتنبأ بوقوع!) أربعة سيناريوهات كونية: عالم دافوس ، نسبة إلي المنتجع السويسري حيث يُعقد سنوياً المنتدي الشهير أهمّ محفل لاقتصاد السوق، وسيناريو السلام الأمريكي ، حيث ستضطرّ واشنطن إلي قيادة أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، قسراً ودون إجماع دولي؛ وسيناريو الخلافة الجديدة ، حين ستمتدّ موجة إسلامية راديكالية تشمل العالم المسلم بأسره، بما يعنيه ذلك من آثار مباشرة علي اتجاهات العولمة بصفة خاصة، وأخيراً، سيناريو دورة الخوف ، التي ستنجم عن اتساع نطاق أسلحة الدمار الشامل وبلوغها أيدي الإرهاب...
وليست هذه، للإنصاف، هي الملامح الوردية التي تناسب صورة العالم كما سيرسمها دون ريب خطاب جورج بوش في حفل تنصيبه، بل هي ــ للمفارقة ــ تلتقي أو تكاد تتطابق مع سلسلة أخري من التحدّيات رصدها تقرير أمريكي رسمي آخر، صادر هذه المرّة عن وزارة الدفاع الأمريكية برسم الكونغرس، ويتضمن مراجعة العقيدة العسكرية الأمريكية واستشراف آفاقها حتي العام 2015. ما يظلّ مدهشاً وطريفاً وعصياً علي الفهم هو إصرار دائرة الدفاع DoD، مؤلفة التقرير، علي التمسك بسيناريوهات تعبوية وقتالية ولوجستية تمّ اعدادها قبل ثلاثة عقود علي الأقل لمـــواجهة حلف وارسو، الآن بالذات حين انضمّت معظم دول ذلك الحلف البائد إلي النادي الأطلسي.
في القسم التمهيدي الثاني، وتحت عنوان المناخ الأمني العالمي ، يقول خبراء البنتاغون إنّ الولايات المتحدة تواجه مناخاً أمنياً ديناميكياً وغير مضمون، وحافلاً بالفرص مثل التحديات. ففي الجانب الإيجابي نحن في طور الفرصة الاستراتيجية. لقد تراجع خطر الحرب الكونية، وقِيَمنا في الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق يتم اعتناقها في العديد من أطراف العالم، الأمر الذي يخلق فرصاً جديدة من أجل السلام والرخاء وتوطيد التعاون بين الشعوب. ودينامية الاقتصاد العالمي تتسبب في تبدّل التجارة، والثقافة، والتفاعلات المتبادلة علي نطاق عالمي. وإن تحالفاتنا، كما مع الناتو واليابان وكوريا، تتأقلم بنجاح مع التحديات الراهنة، وتؤمن الأساس لبناء عالم مستقر ورغيد. وخصومنا السابقون، مثل روسيا ودول حلف وارسو، يتعاونون معنا اليوم في سلسلة عريضة من المسائل الأمنية. والحقّ أن الكثيرين في العالم يرون في الولايات المتحدة الشريك المصطفي من أجل الأمن .
عالم مستقرّ ورغيد، إذاً، فما المشكلة؟ تقول تقديرات البنتاغون: ومع ذلك فإن العالم يظل مكاناً بالغ الخطورة وغير مضمون، ومن المرجح أن تواجه الولايات المتحدة عدداً من التحديات الهامة لأمنها ومصالحها، من الآن وحتي العام 2015 . هنا لائحة ببعض هذه التحديات الهامة التي تستوجب الإعداد والعدّة والعتاد:
1 ـ أخطار تعرّض حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة لغزو خارجي، ويضرب البنتاغون إيران (وكان قبلئذ يبدأ من العراق) كمثال علي نوع الدول التي يمكن أن تتسبب في وقف ضخّ النفط وهو مصلحة أمريكية حيوية عليا ، أو في عرقلة وتعطيل العملية السلمية بين العرب واسرائيل، وبالتالي تهديد أمن الدولة العبرية.
2 ـ انهيار أو تفكك بعض الدول، ثمّ وقوع حروب أهلية وما يقترن بها من مجاعات وأوبئة، ممّا يشكل تهديداً لدول ومناطق يمكن أن تكون حيوية لمصالح الولايات المتحدة.
3 ـ رغم الجهود الكبيرة التي يبذلها المجتمع الدولي، فإنّ من الصعب ضبط انتشار وتداول المعلومات العلمية الحساسة، والتي يمكن أن تستخدمها بعض الدول في أغراض غير علمية (إنتاج الأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية)، أو في أغراض إرهابية.
4 ـ مثلما كان الحال في السنوات الأولي من الحرب الباردة، سوف تظل أرواح المواطنين الأمريكيين معرّضة للأخطار من جهات متعددة الجنسيات ، وذلك بسبب من العداء الراديكالي للقِيَم الأمريكية، أو بسبب من تحالفات وصداقات الولايات المتحدة، والتي تثير هذا القدر أو ذاك من المعارضة والتحريض.
5 ـ تدفق أفواج الهجرة علي نحو غير منضبط يمكن أن يؤدي إلي زعزعة استقرار دول حليفة للولايات المتحدة، ويهدد الأمن في مناطق بأسرها، ويلحق الضرر بمصالح أمريكا العليا...
الأرجح، قياساً علي مضمون التقريرين آنفي الذكر، أنّ ما جناه بوش من رأسمال سياسي في الحملة الانتخابية لن يكفي إنفاقه حتي آخر سنت لكي ينحشر العالم في الصورة الوردية التي يرسمها علم الجبر البوشي المعاصر، أو حتي ذلك العلم المستقبلي الذي تراهن كوندوليزا رايس علي ولادته... ذات يوم ، كما تقول!