خطاب المواعظ الذي أطلقه الرئيس جورج بوش في واشنطن بمناسبة تجديد ولايته اتسم بالعموميات والتجريد الذهني ولم يتناول الحقائق على الأرض. فبوش الثاني يعتبر نفسه دخل التاريخ من بوابتي أفغانستان والعراق وسلوكه في السنوات الأربع الماضية وفشله المتعدد الجنسية وعلى مختلف المستويات لم يعد ذا قيمة بعد أن نال "صك غفران" من الناخب الأميركي.
خطاب المواعظ يتحدث عن الحرية والطغيان وعن الدور الأميركي القيادي في العالم وعن رسالة أميركا الخالدة وعن الديمقراطية واستعداد إدارة البيت الأبيض إلى نشرها في دول العالم الآخر. سيكولوجية الخطاب تتحدث بلغة تبشيرية عن مفاهيم عامة مجردة من الأحاسيس، وتحلق عاليا خوفا من ملامسة الوقائع على الأرض. وحين تنتقل الأفكار من الواقع إلى السماء وتتحاشى التحدث عن المعلومات ولا تشير إلى الأرقام وتتهرب من تحديد الأسماء وتتجنب بحث القضايا كما هي ولا تذكر الوسائل والأسباب والمسببات فمعنى ذلك أن ذهنية الخطاب وصلت إلى حد "جنون العظمة" وبات الخطيب مجرد مبشر يلقي مواعظ لا صلة لها بعوالم الآخرين بقدر ما هي تعكس ذاك الشعور بالتفوق إلى درجة لا يتنازل القائل عن تسمية الأشياء والتعاطي مع الصغائر.
بوش الثاني تحدث وكأنه رجل من التاريخ يلقي مواعظ من عالم خاص لا صلة له بالعالم الذي ينتمي إليه البشر. فهو صاحب رسالة "مكلف" من عالم آخر بتغيير عوالم الآخرين. كيف؟ هذا تركه للقدر. فالرجال "العظام" الذين يدخلون التاريخ ويأتون منه يتركون التفصيلات للطاقم المكلف بتنفيذ "الرسالة الخالدة". هو يتحدث عن المطلقات فقط ويترك الخصوصيات وغيرها للطاقم الذي يقع عليه واجب شرح وتفسير خفايا رسالة "المعلم الكبير".
تجنب بوش الثاني التحدث عن الأشياء كما هي وترفعه عن التعاطي مع "الصغائر" يشيران إلى بلوغ الرجل مرحلة متقدمة من المرض الذهني. وهذه علامة سيئة في سياسة يتوقع لها أن تستمر إلى فترة لا تقل عن أربع سنوات.
طاقم بوش الثاني حاول شرح بعض الغموض في رسالة "القائد المعلم" الخالدة فأشارت وزيرته كوندليزا رايس في جلسة الاستماع أمام الكونغرس إلى أن ولاية رئيسها الثانية ستغلب الدبلوماسية على القوة وستتجنب تلك الأخطاء التي ارتكبت في العراق. ماذا يعني الكلام؟ لا شيء محددا. فالدبلوماسية أحيانا تعني القوة وهذا ما تشير إليه مصطلحات من نوع "دبلوماسية البوارج" أو "دبلوماسية الطائرات والصواريخ". فالقوة العسكرية هي أيضا عمل دبلوماسي سريع ومكثف.
نائب الرئيس ديك تشيني أشار بدوره إلى تلك الدبلوماسية بكلام مجرد غير محسوس، ولكنه أماط اللثام عن احتمال قيام "إسرائيل" أو الوكيل الحصري للولايات المتحدة في منطقة "الشرق الأوسط" بهجمات على برنامج إيران النووي. "إسرائيل" وليست أميركا. وما هو دور واشنطن في المسألة وماذا سيكون رد فعلها في حال حصل الأمر؟ لا جواب محددا. انها مجرد تكهنات يتوقعها نائب لرئيس حلق في خطابه وارتفع عن المحسوسات إلى المجردات ومن الجزئيات إلى الكليات.
خطاب بوش الثاني من أسوأ ما يكون. فهو يكشف عن مرض ذهاني "كما يقول سغموند فرويد". والذهان حين يتطور يتحول إلى نوع من الانفصام في الشخصية ويبدأ الشخص بالتحدث إلى ذاته لا غيره. وبوش في خطابه التجريدي تحدث مع نفسه وعن نفسه. فهو صاحب رسالة خالدة من أمة عظيمة قررت تغيير العالم، ومصيرها يتعلق بذاك التغيير.
الآن بوش الثاني لم يعد الرئيس المنتخب للولايات المتحدة انه وبكل تواضع صاحب رسالة اختارته العناية الالهية لتبليغها إلى العالم. فهو مبشر وليس رئيس أميركا. وهذه مصيبة بعينها وخصوصا أنه ربط الحرية في بلاده بانتشار الحرية في العالم.
فرويد نفسه في إطار معالجاته النفسية في عيادته تحدث كثيرا عن ظاهرة خطيرة وهي انتقال المرض من المريض إلى الطبيب في فترة المعالجة من دون انتباه. وخطاب بوش بمناسبة بدء ولايته الثانية يذكر بمثل هذا الاحتمال ويرجح حصوله. فالكلام المطلق عن "الرسالة الخالدة" و"الأمة العظيمة" و"الدور الطليعي والقائد" يذكر العالم العربي بذاك الذي سمعه كثيرا وليس بعيدا عن خطابات "القائد المهيب" و"بطل القادسية"... انها لغة "صدامية" و"بعثية" مردودة علينا من المقلب الآخر.
مشكلة العالم العربي ليست في عدم تقبل أنظمته للحياة السياسية "وهذا مرض بحد ذاته" وانما أيضا بإضافة مشكلة جديدة وهي أن الطبيب الأميركي مريض في خطابه ومواعظه بحاجة إلى معالجة.