تجتاح المنطقة في هذه الأيام حالة من المد الديموقراطي تتمثل في إجراء انتخابات تشريعية. البعض انقضى كما في فلسطين, والبعض الآخر هو في حالة مخاض عسير كالعراق بعد بضعة أيام, ولبنان بعد أشهر قليلة كما هو مقرر ما لم يحدث ما ليس في الحسبان أو في الحسبان من مفاجآت.

ولنبدأ من لبنان. هذا الشجار السياسي المشحون القائم في لبنان وظاهرة التجاذبات الحادة والخطرة حول قانون الانتخاب المنتظر, اتخذ أبعاداً تخطت في ظواهرها وفي تداعياتها خطوط الحوار الطبيعي الذي يفترض فيه من حيث المبدأ أن يوزع العدل والسوية بين الرعية لاختيار ممثلي الشعب للمجلس النيابي الآتي.

شكل الصراع القائم يدور حول شكل وتوزيع وتربيع الدوائر في المحافظات اللبنانية تمهيداً لانتخاب الربيع المقبل. لكن حقيقة الصراع القائم ليس حول نصوص معينة. والمأزق القائم حول القانون الجديد هل يقتصر فعلاً على القانون الانتخابي أم أن حقيقة الأمر هو المأزق الكبير حول التوافق على الوطن ؟

كنا نميل إلى الاعتقاد أن أي حوار ينشأ بين اللبنانيين هو ظاهرة صحية وصحيحة في بلد نشأ على مبدأ الاختلاف في الآراء وعلى التحزب إلى هذا الفريق أو ذاك. ولو كان الظرف الوطني لبنانيا وإقليمياً ودولياً في حالة طبيعية لكان كل ما يجري ضمن قدرة تحمل الوطن الصغير الذي تحمل الكثير ولا يزال.

لكن الوضع القائم ليس طبيعياً بأي مقياس من المقاييس إلا الذين يعيشون في كوكب آخر. والظرف القائم يفترض العلم وليس الحلم, والتبصر بدل التعثر, والاحتكام إلى العقل لا إلى اللغة الغرائزية التي لا تنتج سوى المزيد من حالات الشحن والتشنج, وقد أملنا كما كثيرون بأن الوطن قد تخطى مثل هذه الأوضاع غير الطبيعية من زمان وأن أبناء هذا الوطن على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم قد توصلوا إلى قناعة راسخة ونهائية أن صيغة التعايش التوافقي تحتاج إلى مقومات أخرى وإلى معطيات تختلف كُلياً عن كل ما نشهد على الساحة بين الفينة والأخرى.

ثم هل أن الاتفاق على قانون فيه عدالة الانتخاب واختيار ممثلي الشعب هو سمة لبنانية فقط؟ فهناك انتخابات جرت قبل أيام وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي الكامل لانتخاب الرئيس الفلسطيني الجديد.

وهناك انتخابات ستجري بعد أيام وفي ظل احتلال من نوع آخر وهو العراق وسط حالة من التأجيج الأمني لم يسبق لها مثيل.

ولبنان الذي كان يدّعي تصدير الصيغ الديموقراطية إلى دول الجوار والعالم القريب بات عاجزاً عن استصدار قانون انتخابي جديد؟ والاتفاق على صيغة منصفة وليس على طريقة التسويات الآنية والمرحلية.

إنها أزمة وطن أكثر منها أزمة انتخاب ممثلي الوطن, خصوصاً أن لبنان اعتاد خلال سنوات الحرب وما تبعها, وهي باتت توازي سنوات الحرب الفعلية منذ التوصل إلى اتفاق الطائف, اعتاد من يقرر له وعنه حتى في شؤون مصيرية, والآن نرى هذه الانتفاضات لإعادة الحق إلى نصابه بعد انقضاء هذا الوقت الطويل, وحيال حالة الاختلاف الوطني على الجوامع المشتركة الأساسية لتركيب الوطن الذي لا يجب أن يخضع في كل حقبة إلى طرح نفس الأسئلة المصيرية وخصوصاً حول نهائية هذا الوطن وأسلوب التعايش وصولاً إلى العيش المشترك الحقيقي!

أن ما يجري أقل ما يقال فيه وعنه أنه عملية تحويل الأنظار والاهتمات الفعلية لطاقات أهل الوطن من كل اتجاه عن المسار الوطني الصحيح إلى المتاهات والمطبات. فعند قيام الحرب المشؤومة أو حروب الآخرين على مسرح الوطن الصغير كان في اعتقاد وظن كل فريق بكل الأساليب المقززة والمريعة التي ارتكبها, أنه يدافع عن الوطن الذي يراه فانتهى الأمر إلى سقوط الجميع في كارثة التنافر والتناحر.

والخيار الطبيعي بعد نشوب الحروب الأهلية كالتي حدثت في لبنان هو الانتقال إلى مرحلة من الاستقرار الوطني وليس إعادة البلاد إلى أجواء مشابهة لتلك التي سبقت ذلك الثالث عشر من نيسان 1975.

ممنوع استحضار مفردات وممارسات الحرب. إن البعض يعتمد على ضعف ذاكرة اللبنانيين, لذا نرى أن نفس الأزمات الوطنية تستحضر نفسها أو يستحضرها البعض من حين لآخر, لغايات ومرام أبعد ما تكون عن مصلحة لبنان واللبنانيين. فهل انتعشت ذاكرة اللبنانيين في هذه الأيام وحصلت على منشطات وطنية! لإبقائها حاضرة الذهن وداعية ومدركة لما يحصل للوطن من تفتيت جديد تحت شعارات مختلفة سقطت كلها خلال أحداث الماضي القريب وهي التي يجب أن تبقى في الأذهان للتعلم منها لا تكرار نفس أخطاء التجربة التي نرجو ونأمل بكل حرارة أن يدخل الوطن إليها من جديد.

فنار جهنم الجحيم الوطني أشد لسعاً وأكثر إيلاماً من أي نار أخرى.

وإذا أردنا البقاء ولو للحظات في ظاهرة الأزمة القائمة ألا وهي الاتفاق على صياغة قانون الانتخاب وتشريح خريطة الوطن إلى استقطاعات أو اقطاعات! لهذا الفريق أو لذاك. فقد استمعنا في جملة ما استمعنا في موسم الكلام الغزير الذي يسهم في عملية الإلهاء أكثر مما يُفيد في عملية تقرير المصير للوطن... استمعنا إذاً إلى وزير الداخلية سليمان فرنجية يقول بصراحته الزغرتاوية المعهودة وبكلام عفوي غير منمق أنه يتوقع ما يأتي: "عندما يصدر قانون الانتخاب ستشهدون انقلاباً في المواقف حيث سيصبح المؤيدون من المعارضين, كما سيصبح المعارضون من الموالين".

أن مثل هذا الكلام يؤشر من جديد إلى اعتماد الشخصنة في الانتخابات بعيداً عن البحث عن الأهداف الوطنية العليا كما يحلو لكثيرين إدعاء ذلك.

أما في مسألة تقاذف المسؤوليات بين الأطراف, فالكل مسؤول ولو بدرجة متفاوتة من المسؤول الفعلي إلى المسؤول النظري, إلى "المسؤول السحري"! وصولاً إلى المواطن اللبناني الذي اعتاد على أسلوب نمطي في اختيار نوابه, حيث يبقى خلال سنوات يشكو من الانتقاد والحرمان ممن منح ثقته لهم في الانتخاب الشعبي حتى إذا ما حل يوم الانتخاب مرة أخرى سارع إلى انتخاب نفس الذين كان يشكو من إهمالهم له ولمصالحه أو لمصالح منطقته. وبالمناسبة علينا أن نطرح واحداً من الأسئلة الضائعة في هذه المتاهة: هل أن مجلس النواب في لبنان هو للتشريع والرقابة كما يفترض؟ أم أنه مجلس خدمات خاصة للمواطنين؟ ومن أجل هذا المفهوم يقضي القسم الأكبر من النواب من أوقاتهم في مراجعة الوزراء وأصحاب النفوذ لـ "تخليص" هذه المعاملة أو تلك؟

لنأخذ التركيبات القائمة ـ حيث لا مجال للحديث عن حكومة... وعن معارضة بالمعني الدقيق. فهناك معارضون داخل الموالاة ـ وهناك موالون داخل المعارضة, كما هنالك معارضات داخل المعارضة.

والانتقاد ليس على هذا الموزاييك السياسي وهو من العادات اللبنانية القديمة والمتأصلة, لكن عملية التداخل بين كل هذه التيارات يُشير وكأنها ستنتهي بالاصطدام ببعضها البعض أكثر مما هي عملية منازلة ديموقراطية بين هذا النهج أو ذاك. لقد رحل صاحب النهج! ولكن هل كتب على الوطن أن يرهن مصيره بشخص أو بجهاز؟

مرة أخرى: أن كل ما يحدث في لبنان من شجار سياسي ليس إلا أزمة تتصل بهوية والوطن وكيانته. لقد انقضى ما يقرب من الخمسة عشر سنة على اتفاق الطائف. فهل حان الوقت لإعادة طرح مدى نهائية الوطن اللبناني وهل لا يزال للانتقال من مرحلة إلى أخرى مع انقضاء فترة زمنية معينة ؟

أن نهائية الوطن ليست بالكلمات ولا بالشعارات الكبير منها أو الصغير.

أيها السادة: ابحثوا عن العقل اللبناني أو الباقي في لبنان قبل أن يهجر الوطن كما اضطر كثيرون أمس وحتى اليوم من أصحاب هذه العقول إلى هجرة الوطن وبناء "لبنانات" في العالم الكبير.

لأن الوطن الثابت والمقيم لا غنى لأحد عنه.

فليستدرك الجميع الظروف قبل فوات الأوان لأن الوطن قابل للتجديد وللتغيير والتطوير لكنه غير قابل... للاستنساخ ! هذا في الشأن اللبناني أما في شؤون وشجون العراق فالوضع الديموقراطي الانتخابي أكثر مأساوية, واليوم الذي تحدد (30 كانون الثاني / يناير الحالي) سيكون مفصلي الطابع في أي مسار أو في أي اتجاه ـ ستكشف عنه خيارات الشعب العراقي الذي يعتاد حالياً على كيفية ممارسة هذا الحق الطبيعي وذلك بعد انقطاع طويل للأسباب المعلومة من حرمان هذا الشعب من ممارسة حقه الطبيعي في أن يقول كلمته في من يمثله في المجلس الوطني العتيد.

وفي هذا الامتحان إذا ما قُيض للعراقيين أن يبلغوه بعد أسبوع واحد فقط بالتمام والكمال عملية اختبار بالغة الصعوبة والتعقيد. وفيما يرفع البعض شعار تقبل تبعات هذه العملية واعتماد مبدأ "شر" الانتخاب ولا "فضيلة" التأجيل تحت ضغط أي اعتبار وأولها وأهمها وأخطرها الكابوس الأمني, يبقى السؤال الكبير والذي يفسح في المجال لأكثر من احتمال: هل أن الانتخابات العراقية ستكون بداية الحل لمعضلات العراق؟ أم أن مرحلة ما بعد هذه التجربة والتي ستجري بمن حضر وغير مكتملة في بعض المناطق والمحافظات الغارقة في التأجيج الأمني, ستسفر عن وضع أكثر تعقيداً وخطورة أكثر مما هو قائم وقاتم اليوم. وهكذا سنرى بعث تعبير "أم المعارك" إشارة إلى المنازلة الكُبرى الجارية بين التصويت والتفجير.

وهل صحيح أن لا صوت يعلو على صوت الشعب إذا تمكن من بلوغ مركز الاقتراع والعودة منه سالماً والتصويت للوائح رقمية حفاظاً على حياة المرشحين والناخبين حيث سيكون السباق الكبير بين الطامحين في العودة إلى حياة شبه طبيعية وبين الإرهاب الوطني والإرهاب الوافد والذي اختار العراق ساحة كبرى لهذه المواجهات.

وهكذا يتضح ـ حتى كتابة هذه السطور على الأقل أن المشهد العراقي سيكشف عن المزيد من التطورات الأكثر دموية لدرجة سيصعب معها, ربما, استشراف الوضع العام في بلاد الرافدين وسط حالة من البلبلة والضياع وعدم وجود الرؤيا الواضحة لدى الطرف الأميركي.

وهذا ما كشفت عنه السجالات ما بين وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة كوندوليزا رايس لدى الموافقة على تعيينها في المنصب حيث اضطرت بعد طول مكابرة على الذات وعلى الآخرين للإقرار والاعتراف بعدم وجود خطة لليوم التالي الذي سيتبع الحرب بعد إسقاط نظام صدام حسين.

وهذا أمر يُثير الكثير من الدهشة والاستغراب والاستهجان. كما أنه يجدد طرح العديد من الأسئلة حول ما ستؤول إليه تطورات الوضع في العراق في ضؤ نتائج هذه الانتخابات من عدم إجرائها.

ويوم الخميس الفائت عندما أقسم الرئيس جورج دبليو بوش اليمين الدستورية لولاية ثانية في البيت الأبيض كان الخطاب المنتظر الذي ألقاه لمعرفة ملامح خطة الرجل لأميركا والعالم أجمع ! خلال الولاية الجديدة... كان هذا الخطاب نمطياً كلاسيكياً اكتفى بالعموميات المطاطية ولم يقترب من التفاصيل المحددة لأي من القضايا العالقة كالحرب في العراق ومصير عملية السلام العربي ـ الإسرائيلي.

ولعلها كلمة واحدة يمكن التوقف عندها وردت على لسان وزيرة الخارجية الأميركية عندما قالت: "لقد حان الوقت للديبلوماسية"!

فهل تتمكن العطّارة رايس من إصلاح ما أفسده دهر بوش ؟ ...

وهل سيتمكن بوش 2 في ولايته المجددة من تحديد الخسائر والأضرار رأفة بهذا العالم ؟ أم أن الغرور الأحادي سيتواصل على أساس أن خيار المجتمع الأميركي أكد أن الرئيس جورج دبليو هو الوحيد على صواب والعالم بأسره على خطأ !