عندما زار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد موسكو في عام 1999 أثارت إسرائيل زوبعة حول احتمال شراء سوريا صواريخ أس 300 مع أنها لم تكن مطروحة على جدول أعمال تلك الزيارة، واليوم استبقت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو بحملة مزدوجة ضد كل من دمشق وموسكو وذلك في إطار سياسة استراتيجية هدفها السيطرة على العالم وإرادته حتى لو كان العنوان هو مكافحة الإرهاب.

بغض النظر عن صحة صفقة الصواريخ الروسية من نوع ( اس. أيه 18) إلى سوريا، فان حجة إسرائيل هي:ان الصواريخ المذكورة ستغير من التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط ! وان وجود مثل هذه الأسلحة يشكل تهديدا كبيرا لأمن إسرائيل! بينما الحجة الأميركية هي: الخشية من وصول هذه الصواريخ إلى الجماعات العراقية المسلحة!

غريب هذه الحجج وأمرها لمن يفكر قليلاً، لماذا؟ ببساطة لأن الصواريخ التي تتحدث عنها تل أبيب هي صواريخ دفاعية وليست هجومية، بمعنى آخر إذا لم تقم الطائرات الحربية الإسرائيلية باختراق الأجواء السورية واللبنانية فان هذه الصواريخ لا عمل لها، فكيف يمكن ان تشكل هذه الصواريخ تهديدا لأمن إسرائيل؟

يقينا ان إسرائيل التي تملك أكثر من مائتي رأس نووي تعرف هذه الأمور أكثر من غيرها، وهي تعرف جيدا ان المسألة لا تتعلق بتهديد أمنها بل ببقاء الأجواء العربية وتحديدا اللبنانية وربما السورية مستباحة أمام طيرانها الحربي كلما أرادت ذلك، الحجة أو الأكذوبة الأخرى التي روجتها الصحافة الإسرائيلية هي ان هذه الصفقة ستغير من معادلة التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط.

وهذه أكذوبة لا أساس لها، لأن إسرائيل التي تملك كما قلنا أكثر من مئتي رأس نووي وأسلحة جوية متطورة جدا وقبل هذا وذاك تحظى بدعم أميركي لا نظير له في العالم، تدرك قبل الآخرين ان حصول سوريا على بعض صواريخ دفاعية مضادة للطائرات من روسيا لن تؤثر في موازين القوة العسكرية والتي تميل إلى صالح إسرائيل بشكل صارخ، كما ان حجة الولايات بأن هذه الأسلحة قد تصل إلى المسلحين العراقيين هي أيضا لا تقل سخافة عن الحجج الإسرائيلية، لا لأن سوريا تحرص على عدم الانجرار إلى الاصطدام مع الإدارة الأميركية.

ولا لأن سوريا لا تؤيد العنف الدامي في العراق مقابل دعمها للعملية السياسية الديمقراطية في العراق، بل لأن الجميع يعرف ان الحدود العراقية السورية مراقبة عبر الأقمار الصناعية ( التجسسية ) الأميركية على مدار الساعة والدقيقة وان الجيش الأميركي منتشر على طول الأراضي العراقية على الحدود مع سوريا ولا أحد يستطيع عبور الحدود دون موافقة القوات الأميركية، فكيف يمكن إيصال هذه الصواريخ إلى داخل العراق؟

من الواضح، ان الحملة الأميركية الإسرائيلية المزدوجة ضد دمشق وموسكو تتجاوز صفقة الصواريخ المذكورة ( ان وجدت ) إلى قضايا سياسية معقدة في الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية حيال العالم، فهي ( الحملة ) تشير إلى ان الحرب الباردة ضد روسيا لم تنته بعد على الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي، ولعل ما حصل في أوكرانيا مؤخرا وانكشاف دور الولايات المتحدة وإسرائيل في دعم مرشح المعارضة والمناهض لروسيا دليل على استمرار هذه الحرب والتي يبدو أنها ستستمر طالما ان روسيا دولة كبيرة بجغرافيتها وقوتها وإمكاناتها، وطالما هناك في موسكو من يفكر بالدور والنفوذ على الساحة الدولية وت��ديدا في الشرق الأوسط حيث الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وفي هذا الإطار، يمكن القول ان شارون الذي يملك علاقة جيدة مع المليارديرات اليهود الروس الذي يتحكمون في العديد من المفاصل الاقتصادية والإعلامية في روسيا، يعتقد ان زمن العلاقات الجيدة بين موسكو والدول العربية وتحديدا السورية قد ولى، وانه ليس بوسع بوتين تفعيل هذه العلاقات حتى لو كان من البوابة السورية طالما ان شارون قادر على تحريك البيت الأبيض وتحريضه ضد موسكو بل ودفعه إلى التهديد بفرض عقوبات قاسية عليها.

فما بالك إذا كان الموضوع يتعلق بصفقة صواريخ متطورة إلى سوريا هذه الدولة العربية الجارة للعراق وفلسطين والمتهمة بـ ( الإرهاب) ودعم ( الجماعات الإرهابية) وخاصة حزب الله اللبناني الذي تعتقد إسرائيل ان وصول مثل هذه الصواريخ إليه يعني نهاية عهد الانفراد الإسرائيلي بالأجواء اللبنانية.

في مقابل السياسة الأميركية الإسرائيلية تحس روسيا بوتين بأنها أصبحت محاصرة عسكريا بالحلف الأطلسي والقواعد الأميركية المنتشرة من حولها، وهي في الداخل تعيش معركة ضارية مع المليارديرات اليهود من أمثال بيروفسكي وغيرها من الذين يريدون اطباق السيطرة على الاقتصاد الروسي، روسيا هذه لا تستطيع أن تنسى أو تتجاهل ما جرى في أوكرانيا التي هي بمثابة الوطن الأم تاريخيا لروسيا في عهد القياصرة والبلاشفة معا وصولا إلى عهد بوتين، روسيا هذه تسعى إلى إقامة محور مستقل مع الصين والهند وإيران وصولا إلى سوريا.

وعليه رفض بوتين الضغوط الأميركية الرامية إلى وقف التعاون العسكري مع إيران، وأعلنت للمرة الأولى أنها ستجري مناورات عسكرية مشتركة مع الصين خلال العام الحالي، ولهذه الغاية الاستراتيجية زار الرئيس بوتين تركيا مؤخرا وكانت الزيارة الأولى لرئيس روسي منذ عقود إلى هذا البلد الذي لايزال يرتبط بمعاهدات عسكرية مع واشنطن وعلى أراضيه قواعد عسكرية أميركية ضخمة، أبرزها قاعدة أنجرليك القريبة من الحدود الروسية والإيرانية.

من جانبها، سوريا التي تحس بوطأة تصاعد الضغوط الأميركية الإسرائيلية عليها خاصة بعد احتلال العراق حيث الضعف العربي، سوريا هذه تحس بالحنين إلى أيام دعم الاتحاد السوفييتي من خلال الوريثة روسيا، وهي في حنينها إلى تلك الأيام لها مبرراتها السياسية والأمنية طالما ان إسرائيل لا تريد السلام العادل والشامل في منطقة الشرق الأوسط، وطالما أنها ( سوريا ) تجد نفسها وبشكل يومي امام التهديدات والضغوط الأميركية والإسرائيلية، وطالما ان الاتحاد الأوروبي لا يقوم بدوره في الشرق الأوسط كما يجب وان قام فهو يميل إلى الرضا الأميركي والحرص على إسرائيل وأولوياتها التي لا تنتهي.

من دون شك، التقاء المصالح الروسية السورية على هذا النحو يشوش على السياسة الأميركية في العراق واستحقاقات هذه السياسة، كما انه يشوش على الاستراتيجية الأميركية حيال إيران بعد الاستحقاقات العراقية، وكذلك يثير القلق في إسرائيل من قدرة سوريا ميدانية على المواجهة ولو في ظروف غير متكافئة بعد ان اعتقدت إسرائيل ان هذه المواجهة لم تعد قائمة من الجانب السوري وانه على سوريا القبول بالشروط الإسرائيلية ان لم تكن اليوم ففي الأيام المقبلة، ولهذه الأسباب مجتمعة جاءت الحملة الأميريكية ـ الإسرائيلية على زيارة الأسد إلى موسكو والهدف هو عدم التفكير بإحياء محور دمشق - موسكو م��ما كانت الظروف.