كان مشهدا مهيبا اجتمعت فيه الأجيال المختلفة والتيارات المتباينة لتعرب عن الحب والعرفان والتقدير والاحترام الذي تكنه للأديب العظيم يحيي حقي(1905-1992) الذي كان الاحتفاء به تعبيرا عن الإجماع علي مكانته وقيمته في حياتنا الثقافية. ولم يكن غريبا- والأمر كذلك- أن يحتفي المجلس الأعلي للثقافة بمرور مائة عام علي مولد يحيي حقي, في السياق نفسه الذي سبق أن احتفي فيه بكبار مبدعي الثقافة القومية والعالمية, فإبداع يحيي حقي- كأدواره الثقافية- ينزله منزلة رفيعة في التاريخ الأدبي العربي, ويجعل منه قمة رفيعة من قمم الثقافة والفكر والإبداع بوجه عام. ولذلك أصبح الاحتفاء به احتفاء برمز مضيء في سماوات الإبداع المصري والعربي والعالمي, فكتاباته الاستثنائية التي استلهمت واقعها, وغاصت إلي جذره الإنساني, وصاغت بإبداعه نماذجه الدالة في خصوصيتها الفريدة, صنعت له مكانة متميزة بين الأجيال المتعاقبة من المبدعين, وجعلته موضع تقدير المثقفين المصريين والعرب الذين احتفوا بإبداعه, ووجدوا فيه رائدا استثنائيا, يجمع بين الأصالة والمعاصرة, ويتحرر من قيود الواقع, ويتطلع إلي آفاق الحرية, وينحاز إلي المحرومين من العدل في الحارات والأزقة والقري والنجوع, وإلي فقراء المدينة, وأبناء الطبقة الوسطي الصغيرة بمشاكلها المختلفة.
وقد انبثقت موهبته وسط الحارات الشعبية المحيطة بالسيدة زينب, مرهفة في إدراكها, غنية بالرؤي التي تختزن أدق تفاصيل المكان وكل علامات الزمان في علاقتهما بالإنسان, فاستوعبت ما في الحارة من شخصيات هامشية وتناقضات اجتماعية ومفارقات إنسانية. وصاغت من حياة هذه الحارة ما جعل منها موازيا إبداعيا لا تتكرر ملامحه, سواء في القدرة علي التقاط تفاصيل حياة المحرومين المحكومين بشروط اجتماعية قاسية, أو في تعبيرها عن هذه التفاصيل في صياغة جمالية لم تفقد جدتها أو قدرتها علي الإدهاش إلي اليوم. وقد ظلت موهبة يحيي حقي مشدودة كالوتر الذي يهتز لأقل نسمة, فأضافت إلي مادة إبداعها ما وجدته في قري مدينة منفلوط التي عمل بها يحيي حقي وكيلا للنيابة, وظلت تلتقط بعدستها الصور الإنسانية التي اختزنتها الذاكرة في رحلة العمل الطويلة بالأقطار العربية والأوروبية والآسيوية. وكان ذلك عندما انتقل يحيي حقي للعمل بوزارة الخارجية, ومنها إلي غيرها من الوزارات, إلي أن استقر بوزارة الثقافة رئيسا لتحرير مجلة المجلة التي احتضنت في عهده كل المواهب الشابة. ومع تنوع مصادر رؤيته الإبداعية لم تفقد كتابة يحيي حقي, أبدا, انحيازها القديم إلي الإنسان الباحث عن الحرية والعدل والتقدم في الكون, محتضنا قيم الحق والخير والجمال في صراعه من أجل الوصول إلي أرقي أشكال الحضور. ولذلك كانت كتاباته الإبداعية- منذ بداياتها- احتجاجا علي شروط الظلم الاجتماعي, وإدانة للاستبداد السياسي, وتعرية كاشفة للتناقضات الاقتصادية, وأخيرا, تطلعا متوقدا إلي كل ما يسمو بالإنسان.
وكما ظل الإنسان ـ في نبل مسعاه رغم تردي أوضاعه ـ هدف كتابة يحيي حقي, ظل المسعي الأساسي في هذه الكتابة مرتبطا بالحرص علي التوازن بين الروح والجسد, الشرق والغرب, المحلي والإنساني, الخاص والعام, الغاية والوسيلة, الحرية والضرورة, بحثا عن الوسط الذهبي الذي تغتني به الروح الطليقة للكائن الحر, فينشط الجسد مفعما بالحياة والكرامة, وتنتشي الروح بالجمال والجلال, فيتحقق الوجود الخلاق للإنسان الذي هو بداية المسعي ونهايته. ويتجسد هذا التوازن في الكتابة التي لا ينفصل فيها لفظ عن معني, أو يتضخم أحدهما علي حساب غيره, فهي كتابة لفظها بقدر معناها, وتميزها الأسلوبي هو الوجه الآخر لتميزها الفكري, وحرص تراكيبها علي الدقة هو اللازمة المنطقية لحركة العقل الذي يعرف من أين جاء, وإلي أين يمضي, جاعلا من هدفه الذي لا يتغير في الارتقاء بالحياة محطة وصول وانطلاق, وانطلاق ووصول, إلي ما لا نهاية في مدي الارتقاء بالإنسان وتحريره من شروط الضرورة.
ولذلك التزمت كتابات يحيي حقي بقضايا التقدم والاستنارة في مجالاتها المتعددة وأنواعها المختلفة, فجمع إلي كتابة القصة القصيرة ـ التي أبدع فيها روائعه التي تعد من المنجزات المهمة لهذا النوع الأدبي في مصر في القرن الماضي ـ كتابة السيرة الذاتية والتأملات الشخصية. وكتب في أدب الرحلة كما كتب في النقد الأدبي والموسيقي والفنون التشكيلية. وقد ترجم من روائع الإبداعات العالمية وعرف منها بما رآه جديرا بالتعريف والتقديم, قادرا علي الإسهام في النهضة الثقافية التي كان أحد أعمدتها. وبقدر ما كان يؤمن بتعدد أدوار الكتابة والانتقال بين مجالاتها المختلفة, ما بين قصة قصيرة ورواية وسيرة ذاتية ولوحات قلمية, كان ناقدا عميق النظرة مرهف الحدس في التعامل مع كل فنون الكلمة والنغمة واللون والحجر, وذلك في المدي الذي يجمع ما بين الإسهام في ممارسة الإبداع ونقده وتأمله والتنظير له أو التأريخ. ويرجع ذلك إلي تعدد أوجه يحيي حقي وتنوع اهتماماته ومواهبه علي السواء.
ولم يكن هذا التعدد لمجالات الكتابة ووظائفها- في وعي يحيي حقي- منفصلا عن إيمانه بتعدد أدوار المثقف في مجتمعه, خصوصا حين يفرض التخلف السائد- في هذا المجتمع- علي المثقف النزول إلي معترك الحياة الفعلية, والإسهام في دفع عجلة الارتقاء بالمجتمع إلي أفق التطور اللانهائي, وإدراكا بحيوية الثقافة وحتمية دورها في دفع عجلة التقدم إلي الأمام. ولذلك أسهم يحيي حقي في العمل الثقافي العام, مؤكدا, في كل مرة يتاح له فيها التكلم عن الثقافة, أنها قاطرة التقدم ونوره المضئ. وكانت النتيجة ريادته في العمل الثقافي الذي كان من رواده, خصوصا منذ أن تولي إدارة مصلحة الفنون عند إنشائها سنة1955 بوصفها إحدي إدارات وزارة الإرشاد القومي التي كان وزيرها فتحي رضوان في ذلك الوقت. وقد أسهم يحيي حقي- من خلال مصلحة الفنون- في إنشاء العديد من المعاهد الفنية التي شكلت النواة الأساسية لأكاديمية الفنون, فيما بعد, كما أسهم في إنشاء مسرح العرائس وأوركسترا القاهرة السيمفوني وكورال الأوبرا وفرقة' يا ليل يا عين' للفنون الشعبية. وبعد إنشاء وزارة الثقافة سنة1958, وتحويل مصلحة الفنون إلي جهاز في الوزارة الجديدة, انتقل يحيي حقي للعمل مستشارا لدار الكتب المصرية, وظل فيها إلي أن اختير رئيسا لتحرير مجلة' المجلة' منذ أبريل1962. وكان ذلك بعد أعوام من صدورها, وتولي أكثر من مثقف بارز لإدارتها. وقد أفادت مجلة' المجلة'- في عهد يحيي حقي- أجيالا عديدة من المبدعين. وظلت نافذة للثقافة الرفيعة, ومهوي لأفئدة المبدعين والمثقفين علي امتداد العالم العربي. ومن الحق الاعتراف بأن المجلة اتخذت سياسة واضحة في دعم الإبداع, وبخاصة إبداع الشباب, وحنت علي المواهب الشابة التي ظل يحيي حقي طوال حياته حريصا علي اكتشافها وتقديمها, مؤمنا بنتاجها الواعد. ولذلك لم يتوقف عن كتابة المقدمات للكتاب الجدد الذين أصبحوا أعلاما فيما بعد, ولم ينسوا فضله عليهم ولا حنوه علي الكثير من إنتاجهم الذي رأي النور بفضل رعايته وتشجيعه. وربما كانت الفترة التي عمل فيها يحيي حقي في مجلة المجلة إلي سنة1970 أخصب فترات عمره, خصوصا في تأثيره علي الشباب, ورعايته لهم, وتقديمه لأجيال عديدة, علي رأسها جيل الستينيات.
وقد رعي تلامذته المخلصون حقه منذ وقت غير قصير, فانتدب واحد منهم نفسه, وهو المرحوم فؤاد دوارة, لجمع كل ما كتب يحيي حقي, وما تناثر من مقالاته التي كان يؤثر نشرها- تواضعا- في الصحف غير السيارة, وبذل جهدا خارقا في الجمع والتصنيف لسنوات وسنوات, إلي أن اكتمل عمله وأصدر المجموعة الكاملة لأعمال يحيي حقي التي وصلت إلي ثمانية وعشرين جزءا, لم يتقاض عن عمله أجرا سوي تقدير الأستاذ وعرفانه. وقد بدأ نشر الأعمال الكاملة حين كان صلاح عبد الصبور رئيسا لهيئة الكتاب, واستمر النشر إلي زمن عز الدين إسماعيل من بعده, وأخذ يتعثر إلي أن انتهي في رئاسة سمير سرحان لهيئة الكتاب. ولولا فؤاد دوارة وإخلاصه الصوفي- بوصفه مريدا- لأستاذه الفريد ما كان بأيدينا أعمال يحيي حقي, ولا كنا قرأناه كاملا.
- آخر تحديث :
التعليقات