تتسارع الأيام لإجراء انتخابات بالعراق، وأعلنت قوائمها بعناوين براقة مسبوقة بإصرار سلطات الاحتلال، ورئيسها بوش، على إنجازها باليوم المقرر نهاية شهر يناير 2005. مؤكدة على أنها انتخابات نهاية الشهر بالعراق، حيث للتسمية دلالات عند الموظفين العراقيين وعائلاتهم، فهي موعد انتهاء الرواتب الشهرية وانتظار الراتب القادم لتسديد الديون وقوائم الطلبات الشهرية، فهل ستعطي الانتخابات ما ينتظر منها شعبيا؟، وقد حولت إلى القضية المركزية بدلا من الاحتلال وجرائمه ومجرميه، واختصر العراق وقضيته بمسألة انتخابات فقط وكأنها عصا سحرية أو مصباح علاء الدين الذي يحقق مصالح الشعب العراقي كله، بأطيافه ومكوناته وقواه السياسية الوطنية وممثليه الحقيقيين، ونهجه لما يطمح له من حكم ديمقراطي دستوري تداولي، وما كافحت في سبيله القوى السياسية الوطنية فعلا. ولكن لماذا تتحول الانتخابات التي هي وسيلة أو آلية من آليات العمل الديمقراطي إلى الغاية الوحيدة والقصوى بالعراق الآن؟ ألا يتطلب الانتباه لما عبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مندهشا من عقدها في ظل احتلال كامل وما ستنتج عنه تحت تلك الظروف؟ ولماذا تجري بسرية والمشاركون فيها كأنهم أشباح أسماء أو أشباه أرقام؟ وكيف تسمى انتخابات ولا يعرف مرشحوها بالأسماء والمواصفات المطلوبة للتمثيل الشعبي؟ هل هي انتخابات حرة ونزيهة لبرلمان ديمقراطي شعبي يقرر مصير العراق أم إجتماعات لتوزيع حصص شركات وارباحها؟.
عمليا تمارس قوات الاحتلال وأعوانها القوة العسكرية وأساليب الإرهاب والاغتيال والتعذيب والاعتقال والاختفاء وراء السواتر الكونكريتية لمواقعها ومقارها وثكناتها، من جهة، وتسعى في الوقت نفسه إلى الإسراع في عملية تفتيت الشعب العراقي ومكوناته من خلال قوائم الانتخابات وأسماء قياداتها من جهة أخرى. فلأي انتخابات حرة وشعب حر تمضي الأيام؟.
إصرار المحتل على إجراء الانتخابات بموعدها وبأي صورة تكون، سرية أو تزكية لقوائم متفق عليها في المنطقة الخضراء، يتناقض مع أهدافها والديمقراطية المنشودة، ولا يهمه طالما تصب في خدمة مشروعه، ولتصير بالأخير وسيلة لغنائم ضيقة الأفق تفرض على الشعب، ولا تحترم إرادته وخياراته أو أهدافه ومشاريعه. مما يعني أن الانتخابات لم تعد الطريق للتحول الطبيعي للوضع العراقي، أي للمشروع العراقي تسمية حتى بحدود التعاون القائم، بقدر ما هي للتحايل على واقع سياسي معقد، لتمرير المشروع الذي خطط على أسس الخديعة والتآمر على شعب ووطن تحت يافطات مهلهلة لم تعد مغرية أو صادقة مع معناها ومداليلها العملية.
فهل ستكون انتخابات نهاية الشهر هذه وبهذه المواصفات شرعية ومن يقرر شرعيتها وماذا بعدها؟. وأي المشاريع المطلوب إقرارها بالعراق، المشروع الوطني العراقي أم المشروع الأميركي؟.
معظم قيادات الاحتلال، عسكريين ومدنيين ومن فرسان المحافظين الجدد الموزعين على مواقع القرار في المؤسسة الحاكمة في واشنطن ، تحدثوا بصراحة عن مخططات تكرس مشروعهم مشفوعا بالتحذير من انسياقه إلى حرب أهلية بين مكوناته، التي نجحوا إعلاميا بتوظيف من يتبنون تقسيماتها وتجزئ المجتمع العراقي على أساسها رغم كل مغالطاتها على أي مستوى ينظر إليها، فماذا يعني ما يحصل علنا وهل هذا حصاد نضال الشعب العراقي؟ وما مسئولية من اشتركوا في مخطط الاحتلال وأهدافه المتنوعة التي لها سيناريوهاتها حتى في حالة فشل مشروعهم الإمبراطوري انطلاقا من العراق؟. تلك التي نبهت لها صحيفة النيويورك تايمز في إحدى افتتاحيات عددها الصادر في 12/1/2005 في وقوع العراق في براثن حرب أهلية ضروس. مشيرة إلى أن الانتخابات التي صُورت باعتبارها تمهيداً لعراق ديمقراطي جديد بدأت تتجه أكثر فأكثر نحو السيناريو الأسوأ : حرب أهلية بين السنة والشيعة، الأمر الذي من شأنه أن يزعزع استقرار الشرق الأوسط بأسره. وواضح لم تتوقع الصحيفة وغيرها من المحللين والمراقبين تظاهرات الفوانيس التي عمت مدن الجنوب العراقي هذه الأيام. والتي من بين شعاراتها نفط العراق للعراق، أين النفط يا حكومة.... ؟، مما يضع تحذيرات أخرى قد تكون اكثر واقعية من تلك التي لم تعد وحدها قائمة في تعميق مآزق الاحتلال.
الأغلبية الصامتة من الشعب العراقي، وفي مقدمتها المقاومة الوطنية، تواجه سياسات الاحتلال ومخططاته، وتدين الممارسات التي أساءت لها ووضعتها في وضع لا يحسد عليه من فوضى واختلال وبحث عن عمل وانتهاكات فظة وبحث مستمر عن احتياجاتها الضرورية اليومية مما تدفعها بلا شك إلى مقاومة الاحتلال بكل الاساليب والعمل اكثر علنية وتأثيرا في الشارع اليومي رغم اختلاف موازين القوى العسكرية. ويقينا استمرار هذه الأوضاع لا يقدم إلى الشعب العراقي ما كان ينتظره من المتغيرات السياسية وتضغط وقائعها بوجود سفارة أميركية تحتل رمزا سياديا وتضم اكثر من ثلاثة آلاف موظف، نصفهم في خدمة الاستخبارات المركزية، وتوزع قنصلياتها في كل المحافظات العراقية بحماية اكثر من ثمانين ألف مرتزق، على اقل تقديرات وسائل الاعلام المطلعة، إضافة إلى المتعاونين والوكلاء لهم، زيادة على الأكثر من مائة وخمسين ألف جندي أميركي وحلفائهم، وتوظيف مستشاريهم في كل زاوية عراقية، رسمية أم شعبية، مدنية أم عسكرية، لا يوفر للانتخابات أو ما بعدها استقرارا فعليا وشرعية مطلوبة وأمانا واقعيا، وقد تكون تهديدات تدمير المدن من اجل الانتخابات، مثلما حصل لمدينة الفلوجة ابرز مؤشر لذلك. بل قد يكون اشد استعمارا من سابقاته القديمة وأسوأ منها بالتأكيد على المصالح الوطنية العراقية ومستقبل العراق والمنطقة.
والمهم في الاصرار على الانتخابات تعميق تداول الانسحاب العسكري في أوساط المؤسسة الحاكمة الأميركية كمخرج ما من بين ما يجري من إعادة في الاستراتيجية والمخططات الصهيو أميركية، ولكن الأهم هو ما ذكرته الكاتبة نعومي كلاين بوضوح عن ضرورة تحميل الولايات المتحدة مسئولية ما دمرت بالعراق سواء عبر طائرات (إف 16) ومدرعات برادلي، أو اسلحتها الأقل بريقاً، عبر منظمة التجارة العالمية وبشروط صندوق النقد الدولي، وانتخابات شكلية. وهذا بالضبط ما كتبه الكاتب الأرجنتيني رودولفو والش قبل اغتياله من قبل الطغمة العسكرية عام 1977 واصفا إجراءات أميركا بـ(التعاسة المخططة)، وكلما طال مكوث القوات الأميركية بالعراق كلما ازدادت التعاسة التي تخطط لها. وكيلا يكون ذلك واقعا، فالمطلوب رحيل علني للمحتل، وإعادة العراق لأهله ومحيطه وعالمه للقيام بانتخابات علنية حرة ونزيهة وبدائل ديمقراطية حقيقية بإشراف دولي مباشر، لا من وراء الحدود.