طيلة الحملة الانتخابية للفوز بمنصب رئيس السلطة الفلسطينية ركز أبو مازن على تفاصيل برنامجه الانتخابي الذي تميز بالشفافية والوضوح متجنبا الالتفاف والدوران والمواربة، ومسميا الأشياء بمسمياتها.
قال أبومازن انه يعارض عسكرة الانتفاضة وسيعمل لانهائها. وركز على وحدة السلطة والسلاح، وأعلن أنه يرفض العمل العسكري لمقاومة الاحتلال ويؤثر عليه العمل السياسي، ويعتبر العمل العسكري عبثيا لا يحقق انتصارا ولا سلاما، ولا يؤدي الى انفراج ولا الى رفع المعاناة عن شعب فلسطين. وتجرأ على الجهر بالقول: “ان قدَر “اسرائيل” وفلسطين هو تعايشهما جنبا الى جنب في سلام وتفاهم وتعاون”.
تحدث أبو مازن الى شعب فلسطين بجميع فصائله سواء أنصار الحل العسكري أو أنصار محاولة تجربة السلام، وخاطبهم بلغة واحدة برز معها أن الرجل يعرف ما يريد، ويقدر على الجهر بما يريد، وأنه يطلب من شعب فلسطين أن يزكي ويدعم برنامجه الانتخابي ويعطيه بتصويته عليه تفويضا للتفاوض مع “اسرائيل” على أساسه. هكذا سمى الأسود أسود والأبيض أبيض، وليس بينهما لون وسط.
وقبل أن تعلن لجنة مراقبة الانتخابات النتائج الرسمية، وبمجرد ما أظهرت استطلاعات الرأي أن فوز أبومازن أصبح مؤكدا بادر الى التصريح “بمد يده للسلام مع اسرائيل”، وقال انه يتطلع الى أن يعوّض السلامُ الصراعَ الذي طال، وانه يريد أن لا تطول المفاوضات، ولا أن تعطى الأسبقيةُ للحلول الجزئية على حساب الحل الشامل، مذكرا بأنه متشبث بالثوابت التي لخصها في احقاق الشرعية الدولية كما جاءت في مقررات الأمم المتحدة التي تُلزِم “اسرائيل” برفع الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية، وتنص على اقامة الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشريف.
ان نسبة الأصوات (62%) التي حصل عليها أبومازن تعني أن هذه الأغلبية لم تزك فقط شخص أبو مازن، بل أيضا برنامجه السلمي الذي طرحه بكامل الوضوح والدقة، وحدد له الخطوط التي عليه أن يلتزم بها في مفاوضاته مع “اسرائيل”، مما يمكن معه القول: ان اعطاء الشعب الفلسطيني ثقته للرئيس الجديد جاء في شكل عقد وكالة مفوضة في دائرة الخطوط التي رسمها برنامجه الانتخابي الذي لا يُقبل فيه التنازل عن مضامينه.
كان المنتظر أن يجيب شارون على تحية أبومازن بردها أو بأحسن منها، لكنه اتخذ من هجمة حركة المقاومة على مستوطنة (مستعمرة) “اسرائيلية” وقتل خمسة جنود “اسرائيليين” ذريعة لاعلانه عن مقاطعة السلطة الفلسطينية وقائدها الجديد، مكررا نفس الأسطوانة المشروخة :”لا اتصال بالمخاطَب الفلسطيني ما لم يوقف الارهاب. والى أن يتوقف يبقى المخاطب الفلسطيني غير مؤهل للشراكة في عملية السلام”.
لا يشكل هذا الموقف أي جديد، بل انه نوع من الكلام المعاد المكرر، الذي كان شارون يهرف به عن القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان يقول عنه انه حجرة عثرة في طريق السلام. ويبدو أن رقصة “الفالس” هذه التي أداها شارون بهذا الأداء السيئ أقلقت الولايات المتحدة التي رحبت بأبومازن وبتوجهاته نحو السلام فلم يسعها الا أن تعلق على قرار شارون بقولها في حياء وخجل: “نأمل أن يكون هذا القرار مؤقتا”، علما بأن كلمة المؤقت كثيرا ما تفيد ضدها في لغة التعتيم الدبلوماسي. وما أكثر ما عاش العالم في ظل القرارات الدائمة التي حملت للتضليل نعت المؤقتة!
راهنت سياسة التطرف التي طبعت السلوك “الاسرائيلي” طيلة نصف قرن على أن تستفيد “اسرائيل” من كل حرب شنتها على العرب لتقيم على الأراضي العربية المحتلة أسس دولتها الكبرى التي يحلم بها شارون، بدءا من الحرب الأولى سنة 1948 الى حرب جهنم الشارونية التي حدد لها شارون مائة يوم. وها هي تدخل سنتها الرابعة وتجري فوق الأراضي الفلسطينية التي عادت “اسرائيل” لاحتلالها بعد نهاية المفاوضات، بالرغم من أنها أخذت عن كل شبر تنازلت عنه للسلطة الفلسطينية تعويضا ماليا سخيا أدته لها الولايات المتحدة من خزينتها، في عملية صفقات ابتزازية لم تقبض فيها “اسرائيل” الثمن من تحت الطاولة، بل علنا وبحضور الشهود.
ودائما راهنت “اسرائيل” على الحرب ضد السلام، وليس على السلام ضد الحرب. وما تزال فرائص المسؤولين “الاسرائيليين” ترتعش عند ذكر السلام، وترتاح وتطمئن وتنتشي لاستمرار الحرب، هذه الحرب التي مكنت لشارون أن يقبض على الحكم بيد من حديد. وكلما امتدت الحرب سيظل على رأس الحكومة - وهو الجنرال الذي جاوز سن التقاعد- زعيما سياسيا بل زعيم الوحدة الوطنية. ولا يمكن لوضعه هذا أن يستمر في ظرف السلام، مثلما طال في ظروف الحرب. لذلك يعاني حساسية مرضية من سماع كلمة السلام.
في دولة تقول عن نفسها انها ديمقراطية، ليس منطقيا أن يكون الوزير الأول فيها جنرالا ذا سوابق عسكرية مُدانة يتوجس خيفة من سلطة القضاء كما هو الآن حال شارون. لذا نراه يعامل أبومازن مثلما كان يعامل أبوعمار، لأنهما في نظره صورتان لشخص واحد. وقد نحى شارون الرئيس عرفات بذريعة أو تهمة تواطؤه مع الارهابيين، أي رجال حركة المقاومة المشروعة. وها هو يرفض مصافحة اليد التي مدها اليه أبومازن. وهذه المرة بذريعة أن الرئيس الفلسطيني الجديد لا يريد أن يقتل بسلاح السلطة الفلسطينية المقاومين للاحتلال. وقد كان شارون يتطلع الى أن يتفرج على أبومازن وهو يخوض حربا أهلية دامية ضد مواطنيه. وحيث لم يفعل أو لم يحقق ذلك ما بين عشية وضحاها، فهو غير مؤهّل لأن يكون المخاطَب الصالح الشريك في عملية السلام المغشوش.
انها لعبة الحلقة المفرغة التي تدور في شكل الدوامة في نفس الظروف المفتعلة التي تكرر نفسها.
في سنة 1968 أي بعد مرور ما يقارب سنة على شن “اسرائيل” حرب يونيو/حزيران 1967 أصدر الكاتب الصحفي اليهودي “مارك هلّيل” (Marc Hillel) كتابه المشهور: “اسرائيل في خطر السلام” أثبت فيه أنه “لا ينبغي ل “اسرائيل” أن تخشى من خطر الحرب مع العرب، بل عليها أن تخشى من خطر السلام الذي سيجعل من يهود “اسرائيل” أقلية وسط أغلبية سكانية عربية. و”اسرائيل” لا تملك للحفاظ على وجودها وبقائها الا المقوم العسكري”. وزاد يقول في مقدمة الكتاب: “ان الذي تحتاجه “اسرائيل” هو تدفق الهجرة العددية اليهودية اليها. وعلينا قبل نهاية القرن أن نضاعف عدد السكان اليهود لنضمن لنفسنا السلامة في عهد السلام”.
وعلى ذلك لا شيء يقض مضجع شارون أكثر من أن يجد أمامه رجلا في حجم أبومازن يعلن عن عزمه على ايقاف دوامة الصراع، واحلال السلام بديلا عنها. اذا تحقق السلام بين “اسرائيل” وفلسطين والدول العربية الأخرى، فلن يكون الوزير الأول في “اسرائيل” الا سياسيا مدنيا تفرز صناديق الاقتراع الشعبي اختياره. واذا تم السلام، فلن تبقى النظم السياسية العربية في حاجة الى اقتناء السلاح في عملية الاعداد للحرب التي لا تأتي ضد “اسرائيل”، والتي يصرف فيها العرب مليارات الدولارات لفائدة الولايات المتحدة التي تتقن لعبتها على ذقون القيادة العربية، فتبيع لها من السلاح ما تقول عنه انه “آخر صيحة”، ثم لا تلبث بعد خمس سنوات أن تعرض عليهم صفقة جديدة لسلاح “أكثر تطورا”، لأن ما قبله أصبح متجاوَزا، وهكذا دواليك.
قضية الصراع العربي “الاسرائيلي” تمر هذه الأيام بلحظة تاريخية دقيقة. انها لحظة اعلان أبومازن عن تبني خيار السلام الصادق القائم على العدل. وهو سلام يتيح ل “اسرائيل” أن تظفر ببعض ما كان يبدو سنة 1948 مستحيل التحقيق، لكنه اليوم ممكن وقريب منها بل في متناولها أو قبضة يدها. فبعد الخطة العربية للسلام التي تبنتها قمة بيروت وقع في الموقف العربي تحول جذري، حيث قبل العرب التعاطي مع واقع حرب سنة ،1967 لينشؤوا دولة فلسطين على جزء من أرض فلسطين، بدلا من المطالبة باقامتها على جميع أراضي فلسطين في حدودها التاريخية.
ولو كان على رأس حكومة “اسرائيل” قائد مدني لقبِل فرصة فوز أبومازن رجل السلام والدبلوماسية الهادئة بل لسعى اليه وعانقه بحرارة وشكره على ميله الى وضع حد للصراع الذي تبين اليوم أنه لا حل له بالوسائل العسكرية، سواء من لدن “اسرائيل” المسلحة من أخمص قدمها الى النخاع، أو من حركات المقاومة الفلسطينية التي تنتزع الاعجاب والتقدير، لكن عليها أن تؤمن هي أيضا بأن المقاومة العسكرية لا تكفي وحدها لتحرير الشعوب من استعمار غاشم يملك أنواع الأسلحة من مباح وممنوع.
وأمام اللجنة الرباعية التي تشكلت لانهاء الصراع وفرْض السلام على الأطراف المتصارعة فرصةٌ ذهبية يتيحها التحول السلمي الذي طرأ على القيادات الفلسطينية العربية المؤمنة بالحل السلمي، كما يتيحها فوز أبومازن بمنصب رئاسة فلسطين، لتشد اللجنة الرباعية بقبضتها على الثور الهائج “الاسرائيلي” الذي ينطح الجميع بقرنيه، وتجعل منه حيوانا أليفا، وتخفف من غلوائه، وتعيد اليه وعيه بحقيقة وطبيعة العصر الحاضر الذي يعمل في ظل حضارة السلام والعدل، ويعتمد في تعامله الدولي أسلوب الحوار والتفاهم. وهي المدرسة الحضارية التي ينتمي اليها رئيس فلسطين الجديد، بينما لا يزال شارون ينتمي الى قلعة الحرب والصراع والاغتيالات والتدمير والتخريب.
واذا ما فشل الأقطاب الكبار في عملية صنع السلام، وطأطأوا الرأس وخفضوا الجناح أمام شارون، فانهم سيكونون بذلك غير مؤهلين لقيادة العالم. والبداية تأتي من قيادة “اسرائيل” نحو حسن التعامل مع القيم الحضارية التي يقول الأقطاب انهم رعاتها وحماتها.