الشيء الوحيد الذي يمكنكم قوله بشأن الانتخابات العراقية هو: أنها إما ستكون نهاية البداية هناك، أو بداية النهاية. إما أن يخرج العراقيون بأعداد كبيرة للإمساك بزمام مستقبلهم، وكتابة دستورهم، أو أن يتمكن المتمردون الفاشيون هناك، من منعهم من القيام بذلك وبالتالي إجبار إدارة بوش على الانتقال إلى الخطة "ب". والشيء المحزن هو أننا عندما وصلنا إلى لحظة الحسم في العراق، فإننا في الغرب قد أصبحنا منقسمين تماماً.
وأذكر القراء في هذا السياق بأن الرأي الذي تبنيته دائماً منذ وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هو أن الحرب ضد الإرهاب هي في جوهرها حرب أفكار تدور رحاها داخل العالم الإسلامي، بين القوى الراغبة في الحيلولة دون دخول الإسلام إلى عالم الحداثة، وبين هؤلاء الذين يريدون نقل الإسلام إلى القرن الحادي والعشرين، مع المحافظة على جوهره كدين متسامح.
والغرب لا يستطيع أن يخوض تلك الحرب بالنيابة عن المسلمين، وإنما يجب على هؤلاء المسلمين خوضها من الداخل. وهذا هو تحديداً الشيء الموضوع على كفة الميزان في الانتخابات العراقية، التي تمثل في رأيي أول معركة كبرى تدور في إطار حرب الأفكار، التي انطلقت عقب وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهذه الحرب لا يمكن كسبها عن طريق القوات ولكن من خلال جماهير الناخبين، لأنها معركة تدور بين طلقات الرصاصات وبين صناديق الاقتراع.
وهي حرب تدور بين المتمردين الفاشيين، وبين المواطنين العراقيين الذين سيدلون بأصواتهم في تلك الانتخابات. ولعل هذا هو السبب في أن هؤلاء المتمردين لا يركزون هجماتهم على القوات الأميركية، وإنما على موظفي الانتخابات العراقيين، وعلى المرشحين في تلك الانتخابات ورجال الشرطة والحرس الوطني. وهؤلاء المتمردون لهم عقيدة ثابتة هي: أن العراقيين يجب ألا يصوتوا بأي ثمن، لأنهم لو صوتوا، وقامت في العراق حكومة عصرية ولائقة، فإن العالم الخارجي لن ينظر إلى الحرب المندلعة على أنها حرب بين المؤمنين وبين الكفار، ولكن على أنها حرب بين المسلمين الذين يتبنون أفكاراً متخلفة وبين المسلمين الذين يتبنون أفكاراً تقدمية. وعند هذا المفترق الحاسم يقف الغرب منقسماً على ذاته. فكوندوليزا رايس ألقت خطاباً أمام مجلس الشيوخ قالت فيه: إن وقت الدبلوماسية هو الآن. انتظروا قليلا.
إن وقت الدبلوماسية كان منذ سنتين وليس الآن يا آنسة رايس. إن وضعنا كان سيكون أفضل بكثير لو قام الاتحاد الأوروبي برمته وبشكل فاعل بحث العراقيين على التصويت، واستخدام شرعيته الأخلاقية في العالم العربي في نزع الشرعية عن المتمردين. إن الغرب المنقسم على ذاته يمثل عبئاً حقيقياً. وحول هذه النقطة يقول "برنارد كوتشنر"، مؤسس منظمة "أطباء بلا حدود" والذي يعتبر واحداً من المثقفين الفرنسيين القلائل الذين أيدوا إطاحة صدام:"إن أخطر تهديد يواجهه الغرب هو تهديد الإرهاب الإسلامي... على أنه يلزم التوضيح في نفس الوقت أن الغرب لا يقوم بشن حرب على الدين الإسلامي، ولكن على الفاشيين الإسلاميين وهم أقلية. لقد قاتلنا معاً –أوروبا وأميركا – الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وكنا يداً واحدة، أما الآن وعندما حان وقت قتال الفاشية الإسلامية، فإننا نجد أنفسنا منقسمين".
لقد قضيت صباح يوم الجمعة الماضي كله في مقابلة فتاتين فرنسيتين مسلمتين في ضاحية "سانت كوين" الفرنسية التي تسكنها أغلبية من المهاجرين. كانت الفتاتان ترتديان حجاباً، وكانت واحدة منهما ترتدي ثوباً يغطي الجسم كله من الرأس وحتى القدمين على الطراز الأفغاني. كانت إحدى الفتاتين تنتمي إلى عائلة مصرية، والأخرى إلى عائلة تونسية، ولكنهما ولدتا ونشأتا في باريس.
عرفت أن الفتاتين تستقيان معظم معلوماتهما من تلفزيون "الجزيرة"، لأنهما لا تثقان بالتلفزيون الفرنسي، وأن أكثر شخص تعجبان به في العالم الإسلامي هو "أسامة بن لادن"، لأنه يدافع عن الإسلام، وأن "الاستشهاد" الانتحاري أمر مبرر، لأنه ليس هناك مجد أكثر من الاستشهاد من أجل رفع راية الإسلام. وأنهما تعتبران نفسيهما مسلمتين أولا وفرنسيتين أخيراً، وأن معظم أصدقائهما يعتنقون نفس الأفكار تقريباً.
أعزائي القراء ألفت انتباهكم إلى أننا لم نكن واقفين في كابول، ولكننا كنا واقفين خارج مدرسة ثانوية فرنسية تقع على مسافة قصيرة من "برج إيفل".