خطت تركيا الخطوة الأولى نحو الانضمام الى الاتحاد الأوروبي على أن تتبعها خطوات أخرى تستكمل في نهاية العام 2005 لبت الأمر نهائياً بعد ممانعة سنوات طويلة وعناد غربي وصفه لي الرئيس التركي الراحل توغورت اوزال بقوله: «انهم لا يريدون دولة إسلامية في تجمعهم». وقد تعددت المحاولات لعرقلة انضمام تركيا من خلال الاصرار على وضع فقرة في الدستور الأوروبي الموحد تنص على أن المسيحية هي الدين الرسمي للاتحاد.
وبانتظار استكمال اجراءات الانضمام وإزالة العراقيل والتخلي عن العقد والتسامح إزاء الحساسيات التاريخية ورواسب الماضي يمكن القول ان اتمام هذه الخطوة سيتحول الى حدث تاريخي ومفترق طرق في العلاقة بين الاسلام والغرب وتفتح الطريق نحو حوار هادف وبناء ينفي نظرية «صراع الحضارات» ويبني أسس علاقة جديدة تكون فيها أوروبا جسر الحوار بين العرب والغرب والإسلام والغرب وتمهد لانضمام دول عربية واسلامية أخرى عن طريق اتفاقات «الشراكة» وغيرها. وفيما تنهمك تركيا بإعداد نفسها لهذه النقلة التاريخية ما زال العرب يراوحون في مرحلة «جنس الحوار» مع الغرب ووسائل الخروج به الى دنيا الواقع. وقد تابعنا عشرات النداءات والمؤتمرات حول هذا الأمر من بينها ندوة عقدت أخيراً في القاهرة بدعوة من المجلس المصري للشؤون الخارجية بالاشتراك مع مركز الدراسات العربية في لندن بعنوان «مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب... وفاق أم صدام» كانت حصتي منها الحديث عن «دور الإعلام بين تقصير عربي وقصور غربي».
ومع اننا نؤمن بأن الاسلام دين واحد وموحد وعظيم وأبدي ويصلح لكل العصور والأحوال فإن واقع اليوم المؤسف يدفعنا لطرح هذا السؤال: أي اسلام هو المقصود: إسلام الاعتدال والوسطية أم التطرف والعنف والارهاب؟ (رغم انه لا يعتبر من الإسلام في شيء) النموذج الايراني أم التركي، الماليزي أم الطالباني؟ المصري أم السعودي؟ الأزهر أم دار الإفتاء أم الجماعات الجديدة التي ملأت الساحة؟
ثم أي غرب؟ فرغم الظاهر، هناك تدرج في سياسات الغرب ومواقفهم من قضايانا وغيرها، أهو غرب أميركا؟ أم غرب الشعب الأميركي والكونغرس أم الإعلام والبنتاغون أم البيت الأبيض ثم غرب أوروبا: فرنسا أم بريطانيا، اسبانيا أم اليونان أم النروج والسويد والدنمارك... اختلافات وتدرج ومن الحسن الى الأحسن ومن السيئ الى الأسوأ وموزاييك لا بد من التعامل مع كل قطعة فيه على حدة وبأسلوب مختلف عن التعامل مع الجسم الواحد الافتراضي.
ثم أي إعلام نقصد: الإعلام الرسمي العربي المتحجر، أم الإعلام الخاص الذي فلت من عقاله وراح يضرب ضرب عشواء... أم إعلام الجامعة العربية التي فقدت دورها وكبلت بالاصفاد وجرى تكميم فاهها مع الأيام وتحولت الى منبر للشجب والتنديد والمظاهر الفارغة والفارهة.
وإذا كنا نقصد الإعلام العربي المشترك على المستوى القومي في سبيل الحوار مع الآخر والدفاع عن قضايانا وتحسين الصورة فإننا لا بد أن نكون قد أخطأنا في العنوان. فهو غير موجود أصلاً حتى نتحدث عن تقصير أو قصور بل يمكن القول: الغياب والاهمال واللامبالاة والتهرب والاستخفاف بالدور الفاعل الحيوي والأساسي والضروري للإعلام في هذا العصر الذي هو عصر الإعلام المباشر والسريع والشامل والواسع بلا منازع.
لقد جرت محاولات عدة متواضعة لالتقاط الكرة والبحث عن دور للإعلام في الحوار لكنها باءت كلها بالفشل. في أوائل الثمانينات جاء الى لندن الأخ الأخضر الابراهيمي وكان أميناً عاماً مساعداً للجامعة وكنت رئيساً لتحرير الشرق الأوسط ومعه مشروع اصدار صحيفة عربية شاملة باللغة الانكليزية على أن تصدر بعد ذلك بلغات حية عدة... وبعد نقاش مستفيض دفن المشروع وهو في مهده بسبب خلافات الدول الأعضاء وطرحها لتفاصيل تزرع ألغاماً في الطريق لنسفها مثل من يبرز ومن يقدم في الصفحات الأولى من الزعماء والدول والأسبقية والأهمية ثم ماذا عن الخلافات التي كانت وما زالت مستعصية بين عدد من الدول... مما يدفعنا الى التساؤل عن سلسلة محاولات ومشاريع سمعنا جعجعتها ولم نر طحينها مثل مشروع التلفزيون العربي الموجه الى الغرب وبرنامج تاريخ العرب الذي رصدت له موازنات فنام في أدراج الجامعة منذ أكثر من ربع قرن ونامت بعدها مشاريع اقامة اذاعات وتلفزيونات عربية بلغات أجنبية. ثم أين جحافل المفوضين الذين أعلن عن تعيينهم ثم تبخروا ولم نر منهم خيراً ولا شراً؟ وأين مكاتب الجامعة المنتشرة في العالم والتي كانت تقوم بدور ما في السابق ثم أصابها الشلل فلم يعد لها لا طعم ولا لون ولا رائحة! وأين الخطاب الإعلامي العربي ومواثيق الشرف وقرارات وزراء الإعلام العرب؟
الراحل الكبير محمود رياض رحمه الله كان يحكي لي دائماً عن محنته ويقول: «أنا كنت أشحد من الدول العربية، أشحد مواقف ودعماً وأموالاً لتغطية نفقات الجامعة» رغم موقع مصر ونفوذ الرئيس الراحل عبدالناصر آنذاك... فكيف يمكن أن يقوم عمل جدي وأصحاب البيت والقضية لا يحركون ساكناً ولا يهتمون بهذا الجانب المهم من العمل العربي المشترك. أما حديث القصور فهو متبادل بين الإعلام العربي والأجنبي. ونعرف انه ليس مجرد قصور فهناك في الغرب فوقية ورفض التعامل معنا معاملة الند للند، وهناك تعمد في تجاهل حضارتنا وقضايانا وعنصرية تجاه كل ما هو عربي واستخفاف بقدراتنا وعداء تاريخي يعود للحروب الصليبية وهناك أولاً وأخيراً تحريض صهيوني سافر ضد العرب لتشويه صورتهم وصورة الإسلام وتقديمهم للرأي العام كشعوب متخلفة ومتوحشة وغير ديموقراطية ومعادية للغرب.
ومع هذا لا بد من تجنب التعميم ورفض أخذ الكل بجريرة البعض. اذ يمكن رصد أمثلة كثيرة عن الانصاف والرغبة بالمعرفة وتجاوز الخطوط الحمر الصهيونية والعنصرية. أو العودة عن الخطأ إذا قدمنا لهم المعلومة الصحيحة واحترمنا عقولهم وشرحنا الحقائق بموضوعية وصدق.
ولا بد من الاعتراف أيضاً بأن ممارسات بعض العرب والمسلمين أدت الى تأجيج نار الأخطاء والعداء والعنصرية قبل تفجيرات نيويورك وواشنطن في 11 / 9 حيث ظهرت الاسلاموفوبيا وبعدها، على رغم ان الثمانينات والتسعينات شهدت نهضة كبرى في العلاقة مع الغرب وأقيمت عشرات مراكز الدراسات الاسلامية والعربية والمساجد والمراكز الاسلامية في معظم الدول الأوروبية والأميركية والسؤال الآن:

ماذا نفعل ونحن نواجه هجمة شرسة للقضاء على هويتنا الحضارية وتشويه صورة ديننا الحنيف، داخلياً بنشر دعوات التطرف والارهاب؟ وخارجياً بالهجوم المنظم على الاسلام والمسلمين والعرب وإلصاق تهم الارهاب والتخلف بهم، وترويج نظريات عدوانية مثل «صراع الحضارات»؟ والزعم بأن الاسلام هو العدو الأول للغرب وللحضارة والنظام العالمي الجديد بعد انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة.
هل أدى الإعلام العربي ولو الجزء اليسير من هذه المسؤولية وقام بدوره الكامل في هذا المجال؟ كان من واجب الإعلام العربي الداخلي والخارجي ليس التصدي للعنصريين والمتعصبين وأصحاب الغايات المغرضة فحسب بل أيضاً انتقاد كل من يقوم بتصرف أرعن يسيئ للإسلام، ونشر التوعية وتوجيه الناس ودعوتهم لتوخي الحذر وعدم اعطاء الآخرين أية ذريعة أو حجة أو وسيلة لتأجيج حملاتهم المعادية، كما حدث بالنسبة الى عمليات «القاعدة».
من خلال هذه الأمثلة، يبدو واضحاً ان الإعلام العربي يعاني من «تقصير وقصور» ومن عدم تمكنه حتى يومنا هذا من النهوض والتحرك ليصبح فاعلاً بدلاً من أن يكون «مفعولاً به»، وبالتالي التصدي للقضايا المصيرية من إسلامية وعربية وتأدية «رسالته» بعدما توفرت له الامكانات والطاقات المادية والتقنية وما أتاحته له ثورة الاتصالات من القدرة على الانتشار والبث المباشر واستخدام التقنية الحديثة وركب موجة «الأقمار الاصطناعية». ولا بد لمعالجة هذا «القصور والتقصير» من خطوات عملية وجهود جبارة، وقبل كل شيء العودة الى مفهوم «رسالة الإعلام» لتبنيها مع ما يلازمها من مواثيق شرف وروح المهنة وقدسيتها ومسؤولية خدمة قضايا الأمة والإسلام والإنسان.

وبعد هذه الخطوة الأساسية المهمة يمكن للإعلام ان يقوم بدور أساسي في تأدية رسالته الحقيقية المطلوبة في المجالات الآتية:
- المساهمة في مجابهة دعوات التطرف وأعمال العنف والارهاب والتخلي عن دور «الشيطان الأخرس» الذي يخاف قول كلمة الحق وكشف الباطل ويسعى لطلب السلامة وأسلوب النعامة وعدم السماح لمثيري الفتن باستغلال الوسائل الإعلامية للترويج لدعواتهم.
- استخدام وسائل الاتصال الحديثة ولا سيما وسائل البث عبر الأقمار الاصطناعية في إبراز جوانب الحضارة الاسلامية وحضارة العرب وسماحة الاسلام وعالميته وقدرته على مواكبة روح العصر وتحقيق السلام والتعارف والتعايش بين البشر وضمانه لحقوق الانسان في أرقى صورها ومعاداته للتمييز العنصري والتطرف والتعصب، والتأكيد على أن الاسلام يحترم الأديان السماوية الأخرى ولا يكن أي بغضاء للمؤمنين بها أو يسعى لعداوتهم.
- التأكيد على تعايش الحضارات وتفاعلها لا على صراع الحضارات ولا سيما في زمن يحاول فيه الإعلام الأجنبي تصوير الاسلام كعدو وحيد تجب محاربته والتصدي له.
- العمل على توسيع الانتشار الإعلامي والاهتمام بقضايا الشعوب الاسلامية وتخصيص برامج لها لجذبها مع التأكيد على أهمية التضامن ووحدة المصير والأهداف والمصالح المشتركة وتداول البرامج والامكانات والخبرات. وينطبق الأمر ذاته على الدول الصديقة في آسيا وافريقيا.
- ترجمة الأعمال العربية الراقية الى اللغات الحية لضمان وصولها الى المتلقي الأجنبي، اضافة الى أبناء الجاليات العربية والاسلامية الذين يقدر عددهم بعشرات الملايين من البشر ومحاولة تخصيص صحيفة أو مجلة دولية لتحقيق هذا الغرض.
- تنفيذ الاستراتيجية التي اقرت في المؤتمرات العربية ولا سيما في اجتماع المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة «الأسيسكو» التي دعت الى توظيف وسائل الاتصال الحديثة في نشر القيم الثقافية الاسلامية عن طريق التوظيف الذكي والاستغلال الرشيد للامكانات الهائلة المتوفرة.
- الانطلاق من عالمية الثقافة الاسلامية لخوض غمار الحوار والتفاعل مع «الآخر» ومع الحضارات المختلفة لان الثقافة الاسلامية مرنة وقادرة على الانفتاح واثراء ثقافات «الآخر» كما جرى في عصور سالفة.
- الاستفادة من قدرات المسيحيين العرب في الغرب وازالة اسباب التناقض مع أوطانهم لانهم يمثلون خزاناً احتياطياً في الدفاع عن قضايا امتهم نظراً الى المواقع التي وصلوا اليها في شتى المجالات العلمية والسياسية والثقافية والجامعية من ضمن عملية التركيز على دور الجاليات العربية ولا سيما ابناء الجيلين الثاني والثالث الذين اندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة تماماً.
- اليوم وبعد ثورة الاتصالات ولا سيما في حقل الانترنت لم يعد التقصير والقصور مقتصرين على القمة بل ان مسؤولية القاعدة كأفراد ومجتمعات اصبحت كبيرة ومباشرة للاتصال بالعالم والغرب (والرأي العام) بالذات، بـإبداء رأيها وفتح باب الحوار عن طريق هذا الجهاز الذي يمكن ان تصل رسائله الى كل الناس في جميع انحاء العالم ومن القيادات والنواب ورجال الاعمال الى المواطنين العاديين.
ولنا في تجربة مجموعة من الشبان الجامعيين العرب في بريطانيا العبرة والدرس والقدوة والمثال، فقد بدأوا قبل فترة تجربة اعلامية عربية موضوعية فريدة ورائدة عندما انشأوا موقعاً لهم على الانترنت باسم «الراصد الاعلامي العربي» (Website Mrab Media Watch) خصصوه لشرح الحقائق عن العرب والرد على الاضاليل والاخطاء والحملات المعادية بأسلوب عصري يتناسب مع عقلية الغرب.
وقد بدأ المشروع بأربعة اشخاص على رأسهم الشاب الجامعي شريف نجل المصرفي الراحل حكمت النشاشيبي والناشطة العربية منى النشاشيبي ثم استقطب عشرات الشبان والشابات الجامعيين العرب والاجانب حتى فاق عددهم الستمئة عضو من المتطوعين الذين لفتوا اليهم المنتديات السياسية في الغرب وتحدثت عنهم وسائل الاعلام الاميركية والبريطانية التي لم تخف اعجابها باسلوبهم الحضاري لايصال الصوت العربي.
والاقتراحات كثيرة في هذا المجال من بينها الدعوة لوضع استراتيجية عربية واضحة لمعالجة القصور والتقصير وتطوير العمل الاعلامي العربي الخارجي ان لم يكن عن طريق الدول والجامعة فعن طريق هيئات وشركات خاصة ورجال اعمال وجمعية الجاليات ورجال الاعلام. ولا بد ان اشير في هذا المجال الى مثال عن الناتـج المهم للتعاون المشترك بين «سي ان ان» وشركة «اوراسكوم» لانتاج برنامج Inside The Middle East الذي يتحدث عن الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية في بلادنا.
وهذا يثبت اننا قادرون على فتح باب الحوار والقيام بأعمال منتجة تصبّ لخير قضايانا عندما تتوفر العزيمة والارادة والفكر الخلاق...
وعندما نخطو خطواتنا الجدية سيحترمنا العالم ونفرض بدء حوار بناء وحقيقي مع الغرب.