أحمد مغربي: ..ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد ان اطمأن العلماء الى وصول المسبار «هويغينز» على سطح «تيتان» اكبر قمر لزحل؟ ما الذي يعنيه كل هذا الالق العلمي الرائع؟ لنبدأ من قائمة انجازات «هويغينز» التي باتت حديثاً رائجاً. قبل ان نرى بعضاً منها، تجدر الملاحظة ان معظمها يصب في خانة الشبه بين الارض و«تيتان». وتتضمن انجازات «هويغنز» أول هبوط للإنسانية على قمر لكوكب سيّار، غير «قمرها»، الذي وصلته بالجسد في العام 1969، اول وصول للبشر الى سطح ينتمي لزحل، ثاني اكبر الكواكب السيّارة في المجموعة الشمسية، اول تسجيل لصوت عواصف ورياح في الكون، صور عن اول قمر يجد فيه الانسان جغرافيا متماسكة ومتنوعة، اول جرم سماوي يشبه الأرض، ثالث ملامسة لسطح فضائي صلب، غير الأرض التي تسير عليها اقدامنا يومياً منذ فجر التاريخ، اول مرة ترصد الانسانية فعلياً غلافا جويا لجرم كوني، مثل حال الارض وجوّها.
ما الذي يبحث عنه البشر، عبر «هويغينز» هناك؟ الارجح انهم يواصلون بحثهم المضني عن... أنفسهم: هويتهم ووجودهم في الكون الفسيح والمحير، الذي طالما اثار اشد اسئلة الفلسفة قلقاً: من نحن؟ ما هي هويتنا؟ ما الذي نفعله في الكون؟ لعل القسم الآخر من الأسئلة المعقدة يتضمن سؤالاً عن العلم نفسه، مدى صدقيته وصلاحيته وطبيعة علاقته مع الكون. هل نقدر، كبشر يملكون دماغاً مفكراً، من الأرض، التي لا تمثل في الكون الا ذرة غبار في صحراء كبرى، معرفة الكون؟ من الواضح انها ايضاً، اسئلة عن العقل الانساني ومدى صلاحيته في سبر امور الانسان وعالمه الهائل!

«تيتان» يشبه الأرض كثيراً
يشبه قمر زحل كوكبنا كثيراً. رسى المسبار الأوروبي فوق سطح صلب ومتنوع جيولوجياً. أعطت الصور الاولى التي ارسلها «هويغينز» انطباعاً قوياً عن وجود أقنية ماء معقدة، تشبه الأنهار، وكذلك عما يشبه البرك والبحار، وحتى ما يشبه المحيط. لم يتأكد العلماء بعد من وجود الماء.استخدموا كثيراً عبارة «سائل»، ربما لأنهم يظنون ان ذلك «السائل»، ان وجد، قد لايكون كالماء الذي نعرفه في أرضنا. تدل صور «تيتان» الى تربة ووحول وصخور وأودية و... سواحل. ربما تمثل أهم ما ارسله «هويغينز» في التثبت من وجود هواء، بل غلاف جوي يحيط بـ«تيتان»! ربما يختلف تركيبه عن هوائنا الذي نتنشقه على كوكبنا الأزرق، لكنه هواء أيضاً. إنها المرة الأولى التي يصل فيها الانسان الى جسم سماوي فيه غلاف جوي فعلي، مع عواصف وغيوم وغيرهما. لخص توني مادونيل، من الفريق العلمي للمسبار «هويغنيز» الأمر بقوله ان صور «تيتان» تدل الى «جغرافيا كاملة»، بمكوناتها المتعددة، كما نعرفها على كرتنا الارضية.
وقارنه مع الأرض، قائلاً: «لا يوجد دليل على وجود حياة في «تيتان»، الذي يبدو راهناً وكأنه يشبه الأرض عند بداية تكونها، مع فارق كبير يتمثل في الحرارة المنخفضة جداً عليه، اضافة الى ارتفاع نسبة غازي الميثان والايثين فيه». لطالما ظن العلماء ان الأمر كذلك. فمنذ اكتشاف زحل (ثاني اكبر الكواكب السيّارة التي تدور حول شمسنا) في القرن 17، تراكمت المعلومات لتعطي الانطباع بالشبه بين الأرض و«تيتان». جُمِعَت تلك المعلومات بالمراقبة المباشرة عبر التلسكوبات، وبالاستدلال غير المباشر بواسطة آلات الرصد الكوني. يدل ما اكتشفة «هويغينز» الى ان ما يستخدمه العلماء في رصد الكون، وكذلك طرق تفكيرهم فيه ونظرياتهم عنه، فيه الكثير من الصلاحية ــوالصواب، أقلـــه راهناً.
قبل الاستمرار، لنسأل كم مرة استخدم ضمير الجمع «نا»، مثل كرتنا وارضنا وقمرنا وهوائنا ومائنا وغيرها، في الكلمات السابقة؟ بدت الانسانية موحدة كثيراً في متابعة الانجاز الفضائي قرب زحل. حملت المركبة الاميركية «كاسيني»، لمدة 7 سنوات ولمسافة 3.5 بليون كيلومتر، مسباراً لوكالة الفضاء الاوروبية «ايزا»، التي تديره بفريق الماني. وقد صنعت أجهزته المناخية في ايطاليا، ويتابعه فريق علمي في بريطانيا. يجري التقاط بيانات «هويغينز» وصوره، بجهد مشترك بين صنّاعه ووكالة «ناسا». مع اقترابه من زحل، رفع كثير من البشر، على امتداد الارض، اعينهم وعقولهم لمتابعة الحدث الفضائي. قبل الانجاز الفضائي، بدت الانسانية موحدة في التفاعل مع الزلزال الآسيوي وموجات مد «تسونامي». هل باتت الطبيعة، في المريخ والجينوم أيضاً، المكان شبه الوحيد الذي يحس فيه البشر بالانتماء الى كيان انساني واحــد؟
يثير شبه «تيتان» مع الأرض أسئلة طالما رافقت الاكتشافات الفلكية الكبرى. لم تعد تملك الارض الكثير من عناصر التفرد. عندما اعلن الفلكي غاليلي غاليليو ان كوكبنا مجرد ملحق بالشمس، وصل الامر الى حد تهديده بالقتل. تراجع لينجو بحياته. لم يتراجع الفلكي برونو، فقضى حرقاً بقرار من الكنيسة الاوروبية التي تبنت مقولة ارسطو عن مركزية الأرض، وان الشمس تدور حولها. لم ينفع الحرق والتهديد في منع إزالة الأرض من موقعها المركزي ذلك. صارت مجرد كوكب سيّار صغير يدور حول الشمس الكبيرة. تبين لاحقاً انها أكثر ضألة. لا تمثل شمسنا سوى واحدة من بلايين الشموس في مجرة «درب التبانة»، التي لا تعدو كونها إحدى المجرات الصغيرة في الكون الفسيح! اي بعد عن نظرة ارسطو الى الارض كمركز للكون كله؟ بقي الانسان مركزياً بالنسبة للتفكير البشري. ثمة في الفيزياء الكونية مدرستان كبيرتان راهناً، تقول احداهما بضآلة احتمال وجود حضارة عاقلة وذكية في الكون، فكأنها تستمر في التفكير في فرادة البشر وعقلهم. تذهب الأخرى الى الإتجاه المعاكس، الذي ينتمي الى تقليد فلسفي يوناني يرجع الى هيراقليطيس، للقول بامتلاء الكون بحضارات ذكية. وتقول بأن «هنا يُشبه هناك»: ما يحدث في نقطة في الكون، يحدث في اماكنه كافة. الا يبدو شبه الارض و«تيتان» تعزيزاً لفكرة التشابه الكوني؟