ما يمكن استخلاصه من شهادة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة في مجلس الشيوخ الأميركي، أن هناك تغييراً في أسلوب السياسة الأميركية ولكن من دون أي مساس بالجوهر. كل ما في الأمر أن كلام رايس يظهر أن الرئيس بوش الابن في ولايته الثانية قرر المضي في سياساته ولكن من دون مواجهة مع الحلفاء كما حصل في الماضي. وأبرز هؤلاء الحلفاء هم من دون شك ألمانيا وفرنسا.
أعطت رايس أو "كوندي" كما يسميها القريبون منها في واشنطن إشارات عدة في اتجاه استمرار التصلّب الذي ميّز الولاية الأولى لبوش الابن. وهي سمت ستة بلدان اعتبرتها "مارقة" هي: إيران وكوريا الشمالية وبورما وزيمبابوي وبلوروسيا. كذلك أبدت تشدداً مع سوريا محذّرة من أن الإدارة يمكن أن تتخذ مزيداً من العقوبات في حقها بسبب سياساتها في العراق ولبنان وطريقة تعاطيها مع المنظمات الفلسطينية وغير الفلسطينية التي تعتبرها واشنطن "إرهابية".
كان العراق الموضوع الأهم في شهادة "كوندي" وكلامها عن العراق يعكس مدى عمق الورطة الأميركية في هذا البلد. قبل كل شيء رفضت وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة تحديد أي موعد لانسحاب القوات الأميركية من هذا البلد. واكتفت بالقول رداً على الأسئلة التي وجهها إليها أعضاء مجلس الشيوخ بمن فيهم السناتور جون كيري الذي نافس بوش الابن على الرئاسة: "الهدف إنهاء المهمة. إننا نركز حالياً على الانتخابات" المقرر أن تجري في 30 كانون الثاني الجاري. كلام جميل أن يكون التركيز على الانتخابات أي على عراق ديموقراطي يتوجه شعبه إلى صناديق الاقتراع، علماً أنه في اليوم الذي كانت "كوندي" لا تزال تدلي بشهادتها، سقط في بغداد ما يزيد على ثلاثين قتيلاً معظمهم من رجال الشرطة والحرس الوطني نتيجة تفجير سيارات مفخخة عدة. وكان أبرز ما حصل الأربعاء الماضي في اليوم الذي تلا إدلاء وزيرة الخارجية بشهادتها أن الذين ينفذون عمليات التفجير بدأوا يتبعون مع اقتراب موعد الانتخابات أسلوباً أكثر جرأة. يومذاك، لم تكن هناك حاجة إلى انتحاري لتفجير سيارة في مكان يتجمع فيه رجال الشرطة، بل إن سائق السيارة المفخخة أوصلها إلى المكان المحدد ونزل منها وفرّ في سيارة أخرى كانت في انتظاره.
يبقى الكلام الجميل كلاماً جميلاً لا أكثر ولا أقل. وكل كلام عن انتخابات وديموقراطية وتخلص من ديكتاتور يدخل في هذا الإطار، خصوصاً إذا كان البلد المعني في الشرق الأوسط المنطقة التي تعاني كل أنواع الديكتاتوريات. ولكن ما تحتاج له وزيرة الخارجية الجديدة للقوة العظمى الوحيدة في العالم التي تصر على أنه لا يحق لأي دولة أخرى مهما اعتبرت نفسها قوية ومتماسكة ممارسة أي نفوذ خارج حدودها من دون موافقة أميركية، هو تحديد المهمة التي تريد بلادها الانتهاء منها في العراق.
ان رفض إعطاء موعد لبدء سحب القوات الأميركية من العراق لا يغني عن تحديد المهمة، كذلك الكلام العام من نوع "ان العالم متحد خلف فكرة أن علينا النجاح في العراق".
في النهاية يبدو مطلوباً أن تقول الإدارة الأميركية ماذا تريد في العراق، ذلك أن كل ما فعلته حتى الآن يصب في تفكيك البلد وشرذمته. والواضح أن المستفيد الوحيد من العمليات العسكرية الأميركية في العراق هو إيران التي يزداد نفوذها يوماً بعد يوم في العراق من جهة، والمنظمات المتطرفة من جهة أخرى. وبين هذه المنظمات "القاعدة" التي يتبيّن في كل ساعة أنها باتت قادرة على إيجاد ملجأ آمن في هذا البلد على غرار ما كان عليه الوضع في أفغانستان إبان حكم "طالبان".
آن الأوان ليصدر عن الإدارة الأميركية كلام مختلف في شأن العراق، كلام يواجه العالم بالحقائق الجديدة على رأسها أن ثمة حاجة إلى مشاورات تجريها الولايات المتحدة مع حلفائها الأساسيين مثل فرنسا وألمانيا وحتى بريطانيا التي شاركت في الحرب. لا بد لمثل هذه المشاورات التي يفترض أن تشارك فيها أيضاً دول عربية أساسية على دراية بالوضع العراقي بدءاً بالأردن وانتهاء بقطر مروراً بمصر والسعودية، أن تبحث في مرحلة ما بعد الانتخابات. فالانتخابات ستزيد من حدة الفرز المذهبي والطائفي والعرقي في البلد، خصوصاً في ظل الدور الإيراني المتزايد من جهة والنشاط المتصاعد للمنظمات السنية المتطرفة من جهة أخرى.
ان اعتماد سياسة أميركية متصلبة في جوهرها ليس كافياً لتحقيق نجاحات ولإيجاد مخرج من الورطة العراقية، وإلا لتقل إدارة بوش الابن صراحة أنها أرادت القضاء على العراق كدولة عربية موحدة تعتبر ركناً من أركان الخريطة السياسية للشرق الأوسط، وأن ذلك كان الهدف الأوحد والوحيد لحربها بدل التستر عليه بانتخابات وكلام عام عن ديموقراطية وإصلاحات، كلام يضحك ويبكي في آن، لكنه لا يوفر حلاً لا للعراق ولا لجيران العراق العرب تحديداً.