تشهد الساحة الفلسطينية هذه الايام حالة من البلبلة والارتباك، فأوساط السيد محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، تسرب انباء عن التوصل الي اتفاق هدنة مع فصائل المقاومة، ينص علي وقف العمليات الفدائية، واطلاق الصواريخ علي المستوطنات الاسرائيلية، لمدة شهر، فتسارع هذه الفصائل علي لسان المتحدثين باسمها وخاصة حماس و الجهاد الاسلامي الي نفي مثل هذه الانباء، والتأكيد علي ان اي موافقة علي الهدنة مشروطة بالتجاوب مع مطالبها في الحصول علي ثمن سياسي كبير، والافراج عن الاسري، ووقف العدوان الاسرائيلي.
السيد عباس الذي ذهب الي قطاع غزة للقاء ممثلي فصائل المقاومة، سعيا للتهدئة، احدث انقسامات حتي داخل تنظيم فتح ، الذي يتزعمه، عندما اعلن موافقة كتائب شهداء الاقصي علي الانضمام تحت لواء قوات الامن الفلسطينية، وتبين لنا ولغيرنا بعد ذلك، ان نسبة كبيرة من عناصر هذه الكتائب، لم توافق علي هذا المشروع، لانها عناصر تطلب الشهادة لا الوظائف ، مثلما اعلن ابرز قادتها في قطاع غزة والضفة الغربية في تصريحات لوسائل الاعلام.
آرييل شارون، رئيس الوزراء الاسرائيلي، رفع الحظر عن الاتصال بالسيد عباس وسمح لوزرائه، وقادة اجهزته الامنية باللقاء مع نظرائهم الفلسطينيين، بعد ان نجحت تهديداته هذه، واطمأن الي ان هذه اللقاءات ستؤدي الي حماية المستوطنات الاسرائيلية داخل الخط الاخضر وخارجه من صواريخ القسام، وتوقف الهجمات علي القوات الاسرائيلية علي المعابر، مقابل تنازلات شكلية للطرف الفلسطيني.
فأول قرار اتخذه السيد عباس، بعد اكتمال مراسم تنصيبه، هو ارسال المئات من قوات الامن الفلسطينية الي الحدود في قطاع غزة، تجاوبا مع مطالب شارون، لمنع اطلاق الصواريخ علي بلدة سدروت شمال القطاع.
الاوامر صريحة الي هذه القوات بحماية المستوطنات والمستوطنين الاسرائيليين من اي عمليات لفصائل المقاومة، واعتقال كل من يحاول الاقدام علي مثل هذه العمليات، او اطلاق النار عليه اذا لم يمتثل لاوامر قوات الامن هذه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو حول موقف عناصر هذه القوات وقيادتها، لو حدث العكس، اي زحفت القوات الاسرائيلية، واخترقت هذه الحدود باتجاه قطاع غزة، وارتكبت مجازر جديدة ضد اشقائهم وابناء جلدتهم، فهل ستطلق النار علي هذه القوات الاسرائيلية؟
ما يدفعنا الي قول هذا الكلام ما اعلنه شارون امس اثناء عقده اجتماع مجلسه الوزاري في بلدة سدروت هذه، من انه لن يتردد باجتياح قطاع غزة، وربما احتلاله، اذا ما سقط صاروخ فلسطيني واحد علي هذه المدينة.
ندرك جيدا ان الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة قد انهك فعلا من جراء الحصار الاسرائيلي الخانق، والهجمات الدموية المتلاحقة التي تشنها قوات شارون، وهو بحاجة الي لحظات هدوء لالتقاط الانفاس، ولكننا ندرك ايضا، ان الاسرائيليين ايضا في حال من الانهاك، ويعيشون ازمة امنية متفاقمة بسبب تصاعد عمليات المقاومة، وتقدمها نوعيا، فالمستوطنون في حالة من الرعب بدأت تدفع بعضهم للهروب من مستوطناتهم في قطاع غزة بسبب قذائف المورتر وصواريخ القسام التي صارت تهطل عليهم كالمطر ليل نهار.
التوصل الي اتفاقات هدنة بين الاعداء أمر معروف ومتداول في كل الصراعات، ولكن هناك اسسا وشروطا لمثل هذه الاتفاقات لا بد من توفرها قبل التوصل اليها وتوقيعها. وشروط فصائل المقاومة معروفة ومحددة، ابرزها وقف العدوان، والافراج عن الاسري، ووجود التزام واضح بتسوية عادلة تقوم علي اساس الشرعية الدولية، وليس علي اساس الشرعية الاسرائيلية.
السيد عباس وفريقه المعتدل تعرض لخديعة كبري من هذا النوع، عندما تفاوض علي اتفاقات اوسلو، فبينما وثق بالنوايا الاسرائيلية ووضع كل بيضه في سلتها اظهر للاسرائيليين ما هو اكثر من النوايا الحسنة، والتزم بالتطبيق الحرفي لها، وسخر هو وزملاؤه قوات الامن الفلسطينية لقمع المعارضة، وجزّ ذقون قادة حماس في السجون (الشهيد الرنتيسي احدهم) كانت اسرائيل تبني مستوطنات جديدة، وتضاعف مساحة المستوطنات القائمة.
ما نخشاه ان تتكرر المأساة نفسها هذه الايام، وان تتم التضحية بالانتفاضة الحالية بأبخس الاثمان، مثلما جري التضحية بالانتفاضة الاولي، ومن قبل الفريق نفسه، والمنظرين انفسهم، الذين يستخدمون معاناة الشعب الفلسطيني كذريعة للتوصل الي اتفاقات تؤدي في نهاية المطاف الي انقاذ شارون من مآزقه الحالية، مقابل الحصول علي تنازلات سطحية، مثل فتح معبر رفح، وتخفيف اجراءات الارهاب والاذلال علي بعض الحواجز الاسرائيلية علي مداخل بعض مدن الضفة والقطاع.
وقف العمليات واطلاق الصواريخ يجب ان يكون مؤقتا، ومن خلال استراتيجية مدروسة بعناية، وفق ضمانات دولية، ومقابل تنازلات اسرائيلية جوهرية، وفي اطار خطة تسوية واضحة البدايات والنهايات، تستند الي قرارات الشرعية الدولية، اما دون ذلك فيصب في مصلحة شارون، واطالة عمر الاحتلال، وتفسيخ الصف الفلسطيني.
المقاومة الفلسطينية لم تنطلق حتي تتحول الي ورقة مساومة، وانما اداة تحرير واستعادة حقوق مغتصبة. ولولا هذه المقاومة المسلحة لما انكمشت الدولة العبرية خلف اسوار اسمنتية، وتخلت عن مستوطناتها، وتراجعت عن مشروع اسرائيل الكبري.
السيد عباس يجب ان يعود الي البديهيات الفلسطينية، وان يكف عن تقديم تنازلات، ولو حتي لفظية، تتعلق بالقضايا الاساسية، مثل التقليل من شأن العمل المسلح، والسخرية من صواريخ المقاومة. وعليه ايضا ان يكف عن النغمة الجديدة التي يرددها حاليا، وهي ايجاد تسوية عادلة لقضية اللاجئين. فهناك مبدأ اساسي يشكل جوهر الصراع العربي ـ الفلسطيني وهو حق العودة، الذي كفلته القرارات الدولية. فالشعب الفلسطيني ليس حارسا للتركيبة الديمغرافية لدولة اسرائيل، وانما لقيمه ومبادئه وحقوقه الشرعية.
واخيرا لا نفهم لماذا تريد الفصائل الفلسطينية الذهاب الي القاهرة، في حال التوصل الي اتفاق هدنة جديد. فهل حمت الحكومة المصرية الشيخين احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهما من الاغتيالات الاسرائيلية، بعد توقيع اتفاق الهدنة الاول الذي استمر ستين يوما؟
نفهم ان تذهب هذه الفصائل الي القاهرة، لو كانت حكومتها قادرة فعلا علي ضمان أي اتفاق، ومعاقبة شارون في حال اختراقه او عدم الالتزام به، ولكن اذا كانت غير قادرة علي فرض احترامها وكلمتها علي الطرف الاسرائيلي، فمــن الافــضل توفــير الجهد والوقت، والبقــاء في غــزة ورام الله.