كان الحديث يوم أمس عن "ثقافة المغانم المجانية" التي تنتشر في أوساطنا، والتي تؤدي - فيما تؤدي - إلى قتل الطموح وإلى تحويل الوطن إلى ذبيحة يتهالك عليها كل من سلك الطمع طريقا في حياته لانتهاب ثروات الوطن.
لا خلاف بين جميع الفعاليات - على المستوى النظري - حول ضرورة خدمة الوطن، بل ان هناك من درب لسانه لترديد عبارات وتصريحات ومقولات جميلة وشاعرية تتحدث عن الفداء من أجل الوطن. إلا أن المشكلة ليست في التصريحات، وإنما في الأفعال والممارسات وفي الثقافة التي توجه تلك الأفعال والممارسات.
ولعلنا بحاجة إلى أن ندرس جذور هذه الثقافة غير السليمة. فديننا الإسلامي لا يحث عليها والدول المتحضرنة تمنعها. ولو أخذنا الثقافة الغربية - في جانبها الحسن - مثالا على هذا، فسنجد أن هناك من يربط بين القضاء على ثقافة المغانم المجانية وبين ما قام به القس مارتن لوثر في مطلع القرن السادس عشر، عندما انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية وقام بترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية "قبل ذلك كان حرام على الانسان العادي الاقتراب من النصوص التوراتية". وقيل إنه أثناء ترجمته للنصوص ركز كثيرا على "العمل" وربطه بـ "المقدس"، وأصبح العمل والكسب جزءا من الدين والتدين البروتستانتي. وهذا ما يطرحه المفكر الألماني مامس فيبر "عاش بين 1864 و1920" الذي ربط بين "الأخلاق البروتستانتية" ونمو النظام الصناعي الغربي، بحيث يرفض المرء "بمعنى أكثرية الناس في مكان ما" أن يتسلم مالا مجانا ومن دون عمل بالمقابل.
"فيبر" قال إن المذهب المسيحي البروتستانتي "المنشق عن المذهب الكاثوليكي" أسس نظرة جديدة إلى مفهوم "العمل" و"اكتساب الرزق والحصول على المال بسبب العمل"، بحيث أصبح العمل هدفا بحد ذاته، وكل شيء يعتبر أمرا ثانويا.
إن لدينا ديننا الإسلامي الذي "قدس" العمل كثيرا، ولكنني لن أقول إننا قبل لوثر وقبل فيبر وقبل هذا أو ذاك، إذ لا فائدة من كل هذه الأسبقية بالنسبة إلى واقعنا الحالي. ولكن بودي أن أطرح الفرق بين الحالتين. فالإسلام كمنهج مقدس لم نستطع كمسلمين أن نخلق الحال المؤسسية التي تنتهجه، ولذلك فإننا عاجزون عن الوصول حاليا إلى المستوى الذي وصل إليه الآخرون.
إن من واجبنا - حكاما ومحكومين - أن نؤسس إلى ثقافة العمل وأن نقدس هذه الثقافة، وبادئ ذي بدء يجب أن نقضي على "ثقافة المغانم المجانية" التي تحولت إلى ثقافة تسلب الوطن وتحث الجميع على ترك العمل الجاد والتوجه نحو النفاق والتزلف ومد اليد والركض خلف المغانم المنتهشة من جسد الوطن.
إن من واجبنا جميعا أن نعلم أنفسنا وأبناءنا وكل من له علاقة بنا، بأن أي مال نتسلمه من دون عمل إنما هو "مال حرام"، ولن يكون حلالا لأن هناك من يمارسه. وأن من واجب الفعاليات والجمعيات السياسية أن تكون رائدة في هذا المجال وأن ترفض الانسياق نحو ثقافة المغانم المجانية وإلا فإنه لا مبرر لوجودها أساسا.
إن من واجب البرلمان أن يبدأ في حفظ المال العام والثروة الوطنية. وان من واجب البرلمانيين التوجه للقضايا الكبيرة، وإذا عجزوا عن تحقيقها، فإن الناس ستحترمهم لأنهم حاولوا القيام بدور محمود.
لا تنقصنا النصوص أو التصريحات، ومثال ذلك فإن دستور مملكة البحرين في مادته الـثامنة والأربعين "ب" ينص على أنه "لا يجوز للوزير أثناء توليه الوزارة أن يتولى أية وظيفة عامة أخرى، أو أن يزاول، ولو بطريقة غير مباشرة، مهنة حرة أو عملا صناعيا أو تجاريا أو ماليا... ولا يجوز له خلال تلك المدة كذلك أن يشتري أو يستأجر مالا من أموال الدولة ولو بطريق المزاد العلني، أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو يقايضها عليه". هذا جزء يسير من نصوص متوافرة، ولكن المشكلة في التطبيق، والمشكلة الأعظم في الثقافة التي تبرر ما يخالف كل هذه النصوص الواضحة في أكثر من مجال.