قد لا تعقد الانتخابات العراقية كما هو مخطط لها في نهاية يناير 2005 كما تطالب بذلك قوى سياسية وهيئات دينية، أو قد لا تكون هذه الانتخابات شاملة من خلال ارجاء عقدها في بعض المحافظات التي تشهد حركات مقاومة عنيفة.وقد تحدث مفاجأة غير محسوبة تجعل اجراء الانتخابات امرا متعذرا في موعدها المحدد.
الا ان الاوضاع - حتى الان - تشير على الاغلب الى ان الانتخابات سيتم اجراؤها في ذات الموعد المحدد ليس لأن ذلك هو الخيار الامثل لاستقرار الاوضاع واتمام العملية السياسية.
وانما لانه يتطابق مع مصالح قوى دولية، ومحلية كذلك، وهي ترى ان عقدها في ظروف صعبة ومعقدة ستكون نتائجه أقل مأساوية من تأجيلها دون ضمانات بتحسن الأوضاع.
الا ان خيارا كهذا لن يكون هو الاخر بلا تداعيات دراماتيكية سوف تلقي بظلالها على الحياة السياسية في العراق للمرحلة المقبلة لأن الانتخابات في نهاية المطاف هي ايذان بولادة دولة جديدة ما تتباين الآراء حول هويتها وفلسفتها ومهامها.

لماذا الاصرار على الانتخابات
يكاد يكون واضحا، ان الادارة الاميركية وبعد اشتداد العمليات النوعية للمقاومة والنفقات المالية المتصاعدة لميزانية الحرب، وتضاؤل الامل امامها بالانفراج والسيطرة على الاوضاع المتردية في العراق، أصبحت راغبة في ان تلقي بملف العراق خلف ظهرها. هذا لا يعني بالقطع أنها تفكر بالانسحاب من العراق نهائيا.
وانما على اقل تقدير تخفيف مظاهر وجودها العسكري والانسحاب من المدن الرئيسية وبالذات «المتمردة» منها،والاكتفاء بتواجد عدد محدود من قطعاتها،وذلك لتجنيب عسكرييها المزيد من الخسائر، أو بعبارة اخرى - يتداولها العراقيون - هي أنها تسعى الى «تعريق العنف»، اي جعله عراقيا - عراقيا.
بريطانيا وهي الحليف الأهم لأميركا في العراق، مهتمة بإجراء الانتخابات، للأسباب السابقة اضافة الى أنه اذا كان بوش قد خرج منتصرا من المعركة الانتخابية، فان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عليه ان يواجه منذ الان خصومه .
وانتقاداتهم له حول العراق، ولذا فان الانتخابات ستكون بالنسبة له ورقة رابحة يلوح بها كإنجاز قامت به حكومته في العراق.وهذا التحليل يكاد يسري على جميع الحكومات التي تتواجد قواتها العسكرية في بغداد ضمن القوات المتعددة الجنسيات.
ولعل الاهم من كل ذلك هو ان تأجيل الانتخابات فد يرسل اشارات خاطئة للمجموعات المسلحة بانها استطاعت ان تفرض ارادتها وأن تحقق انتصارا سياسيا مما يجعلها أكثر هيبة في نظر المتعاطفين معها.
وأشد رهبة في عيون المناوئين لها، خصوصا بعد اعلان المجموعات الاصولية وحتى بن لادن والزرقاوي معارضتهم للانتخابات وتهديد المشاركين بها،وهي التي بدأت ثمارها تتضح في الاستقالات الجماعية للمسؤولين عن الانتخابات في المناطق الساخنة.
إقليميا قد تبدو ايران أكثر الدول اهتماما بالانتخابات، اذ ان اجراءها وسط حالة الاستقطاب الطائفي الحاد في العراق سيضمن لها فوز حلفائها المهمين، وتصاعدا في الدور السياسي للشيعة العراقيين الذين سيشكلون باستثمار نفوذهم المرتقب، جدارا واقيا لها من السياسة الاميركية.
والاقطار العربية الاخرى ( ماعدا الاردن وسوريا ) أما أنها غير مكترثة، أو أنها راغبة في اجراء الانتخابات لكي تستطيع التعامل مع المتغيرات التي ستفرزها، ذلك لأن ضبابية المشهد العراقي .
كما هو عليه الان وسيولته يجب التعامل معه محفوفا بالمفاجآت والمخاطر بسبب الاوضاع المتقلبة والمفاجئة، أما اجراء الانتخابات فإنه يفضي الى توضيح صورة عراق المستقبل على نحو أفضل يسهل امكانية التعامل معه كواقعة.
على النطاق المحلي يبدو ان الشيعة العراقيين،- ومع أننا لانتحدث عن كتلة واحدة باتجاه متماثل-، الا ان غالبيتهم ماعدا تيار مقتدى الصدر - يبدون متحمسين للغاية لاجراء الانتخابات، بهدف استثمار حالة الاستقطاب الطائفي لصالحهم وأكثريتهم العددية.
والمناخ العاطفي المؤيد لهم،ولاشك فان دعوات اية الله السيستاني مريديه للمشاركة في الانتخابات ووصفه لها باعتبارها «تكليفا شرعيا» تمنحهم زخما لايضاهى.
الاكراد، الذين ناوروا لإرجاء الانتخابات بهدف حسم قضية كركوك لصالحهم، لايبدو ان لديهم مانعا من الانخراط في الانتخابات متى عقدت ـ وعلى الاقل ـ فانهم يضمنون فيها بشكل مؤكد اصوات الاكراد التي تؤهلهم للدخول بقوة في العملية السياسية ولانتخاب برلمان كردستان.
السنة العرب، وهنا ايضا لانتحدث عن كتلة صلدة، لكنهم في العموم أعلنوا عن عدم رضاهم عن اجراء الانتخابات في موعدها والذي يقولون عنه انه ليس «موعدا مقدسا»، وبان من المستحيل الابقاء على الموعد في ظل الانفلات الامني والتشرذم السياسي والقانون الانتخابي «المتحيز» وعدم وجود نهاية واضحة للإحتلال.
ولاشك فان البيانات التي اصدرتها هيئة علماء المسلمين التي باتت تعتبر «المرجعية الفقهية» بالنسبة لمعظم السنة، تعزز القناعات الشعبية، وقد جاء انسحاب الحزب الاسلامي العراقي الذي يعتبر امتدادا للاخوان المسلمين من الانتخابات وقبل ذلك من الحكومة المؤقتة ليمثل نهاية لرؤية السنة العرب وهم يشاركون في الانتخابات.
لاريب ان عدم اشتراك السنة يتبطن موقفا وطنيا بمقاطعة كل ماله علاقة بالاحتلال، وفي نفس الوقت فانه لايمكن تجاهل انه رد فعل للتعبير عن عدم رضاهم بما ستؤول اليه الانتخابات مسبقا بعد ان تم النظر اليهم كأقلية عددية.
ومحاولات التهميش السياسي المقصود الذي يتعرضون له تحت مزاعم انهم انصار نظام صدام،وتحميلهم بالتالي مسؤولية ماحدث للشيعة العرب والاكراد.
ان عدم اشتراك السنة سيمثل معضلة، ليس لأنهم يمثلون أقلية عددية مهمة، وانما لانهم يعتبرون الخزين الاداري والسياسي والعسكري التقليدي للدولة العراقية، كما وانهم يشكلون بؤرة المقاومة العراقية،وبالتالي فان عدم اشتراكهم في الانتخابات سيجعلهم متمسكين بخيار المقاومة .
وربما يدفعهم ذلك الى المزيد من اعمال العنف تجاه الدولة الوليدة، على اعتبار انها خصمهم الجديد.مما يربك استمرار العملية السياسية وقد يكون ذلك تمهيدا لمنزلق الاقتتال الطائفي والعرقي.الشروط التي وضعها الاسلاميون السنة والاحزاب الوطنية والقومية يكاد يكون من المتعذر الاستجابة لها.
وهي خروج قوات الاحتلال أو وضع جدول زمني بالانسحاب،واشراف الامم المتحدة عليها،واطلاق سراح المعتقلين،والكف عن الاعمال العسكرية،الامر الذي تعتبر الادارة الاميركية الاستجابة لها امرا مهينا وغير مقبول،ولذلك فانه حتى التأجيل لو حدث فانه لن يحمل واياه بشائر سارة في مشاركة السنة على نطاق واسع.
ومع ان هنالك هواجس جدية من عقد الانتخابات ولكن تبقى حقيقة ماثلة وهي ان المؤيدين للانتخابات يمثلون الاكثرية، وهم القوة الفعلية التي لديها امكانية صناعة القرار السياسي.
وإذن فالارجح هو عقد الانتخابات في موعدها، ولكن حتى لو تم ارجاء الانتخابات لمدة اخرى أو استثناء بعض المناطق منها فان الافكار الموجودة في هذه الورقة ستأخذ ذلك بعين الاعتبار عند تحليلها لعراق مابعد الانتخابات بغض النظر عن موعدها.