كان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز من أبرز مؤسسي نظرية "الحق الطبيعي". لقد عرضها في كتابه الشهير "ليفياتان" Léviathan الذي ألفه سنة 1651. انطلق هوبز من فكرة جديدة هي ما عرف منذ ذلك الوقت بـ"حالة الطبيعة". وكما سبق أن ذكرنا في هذا المكان (عدد 16-11-2004) عند تحليلنا لظهور فكرة "العقد الاجتماعي"، فقد طرحت فرضية "حالة الطبيعة" لتأسيس ظاهرة الاجتماع البشري والتمدن الإنساني على أساس "معقول" يمكن أن يقدم للحاضر، من الماضي، ما يساعد على غرس وتجذير مفاهيم التحديث والتجديد في وعي الناس. ذلك لأنه بدون هذا النوع من التأسيس الذي "يَكتشِف" أو يسْتَنْبِت في التراث أسس تجاوزه الجدلي (الذي يعني النفي والإثبات، ثم نفي النفي والاحتفاظ بالإثبات بصورة جديدة) سيبقى مطلب التجديد والتحديث مطلباً طوباوياً في ذهن أصحابه. في هذا الإطار وظفت فرضية "حالة الطبيعة" كأرضية لهذا التأسيس. يعبر هوبز عن "جوهر حالة الطبيعة" بالقول:"الإنسان ذئب للإنسان"، بمعنى أن حالة الطبيعة التي كان الإنسان خلالها يعيش في حرية مطلقة هي حالة حرب دائمة بين الإنسان وأخيه الإنسان. والحق الطبيعي في هذه الحالة هو الحق في تلبية الرغبات وإشباعها. يقول هوبز:"إن الحق الطبيعي، الذي يسميه الكتاب عادة بالعدل الطبيعي naturel justice معناه: حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له، من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، وبعبارة أخرى على حياته الخاصة، وبالتالي القيام بكل ما يبدو له، حسب تقديره الخاص وعقله الخاص، أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض.

هذا عن "الحق الطبيعي"، وهو غير "القانون الطبيعي". و"هوبز" يميز بينهما تمييزاً حاسماً حيث يقول:أنا لا أعني بكلمة "الحق" Right شيئاً آخر سوى الحرية الممنوحة لكل إنسان لكي يستخدم قدراته الطبيعية طبقاً للعقل السليم. ومن ثم فإن الأساس الذي يرتكز عليه الحق الطبيعي هو التالي: كل إنسان لديه القدرة والجهد لحماية حياته وأعضائه. وما دام لكل إنسان الحق في البقاء فلابد أن يمنح أيضاً حق استخدام الوسائل، أعني أن يفعل أي شيء، بدونه لا يمكن أن يبقى.

ومن هنا كانت الحقوق الطبيعية للإنسان أربعة: حق البقاء أو المحافظة على الذات. الحق في استخدام كافة الوسائل التي تؤمن الحق السابق (حق البقاء). حق تقرير أنواع الوسائل الضرورية التي تكفل حق البقاء ودرء الخطر. حق وضع اليد على كل ما تصل إليه (اليد):"لقد منحت الطبيعة كل إنسان الحق في كل شيء ولذلك فمن المشروع لكل إنسان أن يفعل أي شيء يساعده على البقاء".

هذا عن "الحق الطبيعي". أما "القانون الطبيعي" فهو قانون، بمعنى أنه قاعدة من صميم العقل البشري، يمنع الناس من القيام بما يقودهم إلى الهلاك الذي لابد أن يجرهم إليه تمسك كل منهم بحقوقه كاملة. يقول هوبز: ينبغي مع ذلك التمييز بين الحق والقانون، ذلك أن الحق يعتمد الحرية، حرية المرء في أن يفعل فعلا ما، أو يمتنع عن فعله. أما القانون فهو الذي يرتبط بواحد منهما دون الآخر، (أي بالفعل أو الامتناع عن الفعل)، فهو الذي يحدد ويعين. ومن ثم فالقانون والحق يختلفان اختلافاً كبيراً مثلما يختلف "الإلزام" obligation و"الحرية" liberty من حيث إنهما يتناقضان في الموضوع الواحد.

"الحق الطبيعي"، الذي تعطيه الطبيعة، يعطي الإنسان كل شيء. أما "القانون الطبيعي"، الذي يصدر من طبيعة عقل الإنسان نفسه فهو يعَيِّن ويحدد الطريقة الأكثر ملاءمة للحفاظ على الحقوق الطبيعية وعلى رأسها حق البقاء. إن العقل يملي على الإنسان فكرة على درجة كبيرة من الأهمية، فكرة التنازل عن حقه الطبيعي الذي يعني حرية التصرف بدون قيود، والدخول مع الآخرين في حال من السلم، قوامها الكف عن الاقتتال والتحرر من الخوف. هذا التنازل عن "الحق الطبيعي" هو أساس الدولة. هو العقد الاجتماعي الذي يجعل قيام الدولة ممكناً.

من الفلاسفة الذين وظفوا فكرة "الحق الطبيعي" الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا (1632-1677). لقد ألف هذا الفيلسوف كتاباً مهماً بعنوان "رسالة في اللاهوت والسياسة"، شرح مضمونها بقوله: وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى (الدين) أو على سلامة الدولة، بل إن في القضاء عليها قضاءً على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد.

أما الغرض من الرسالة فقد حدده في شيئين اثنين: أولا، "الفصل بين الفلسفة واللاهوت (الدين) وبيان أن اللاهوت يترك لكل فرد "حرية التفلسف"، حسب عبارة سبينوزا نفسه. وهنا، مع هذا الفيلسوف الهولندي الذي عاش في القرن السابع عشر، نلتقي مع الفكرة نفسها التي دافع عنها ابن رشد قبل ذلك بخمسة قرون في كثير من كتبه، فكرة الفصل بين الدين والفلسفة.

ثانياً، "معالجة الأسس التي تقوم عليها الدولة". وهذا ما يهمنا هنا، لأنه في هذا المجال بالذات يوظف هذا الفيلسوف فكرة "الحق الطبيعي الذي لكل إنسان بغض النظر عن الدين والدولة". ويعني:"بالحق الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتمياً على نحو معين". ولما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن كل شيء يحاول بقدر استطاعته أن يبقى على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط، دون اعتبار لأي شيء آخر، فينبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، أي في أن يوجد ويسلك كما يتحتم عليه طبيعياً أن يفعل". ويضيف سبينوزا:"وفي هذا الصدد لا نجد فارقاً بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى، أو بين ذوي العقول السليمة ومن هم خلو منها، أو بين أصحاء النفوس القوية والأغبياء وضعاف العقول. والواقع أن كل من يفعل شيئاً طبقاً لقوانين الطبيعة إنما يمارس حقاً مطلقاً لأنه يسلك طبقاً لما تمليه عليه طبيعته ولا يمكنه أن يفعل سوى ذلك. فبقدر ما ننظر إلى الناس على أنهم يعيشون تحت حكم الطبيعة وحدها نجد أن لهم جميعاً وضعاً واحداً: فمن لم يعرف العقل بعد، أو من لم يحصل بعد على حياة فاضلة، يعيش طبقاً لحق مطلق خاضع لقوانين الشهوة وحدها، شأنه شأن من يعيش طبقاً لقوانين العقل. وكما أن للحكيم حقاً مطلقاً في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي أن يحيا طبقاً لقوانين العقل، فإن للجاهل، ولمن هو خلو من أية صفة خلقية، حقاً مطلقاً في أن يفعل كل ما تدفعه الشهوة نفسها نحوه، أي أن يعيش طبقاً لقوانين الشهوة" (لاحظ كيف تطورت فرضية "حالة الطبيعة" مع سبينوزا إلى فكرة "الحق المطلق").

وهذا لا يعني أن سبينوزا يدعو الناس إلى العيش حسب طبيعتهم وحدها دون اعتبار لما تمليه عليهم عقولهم. كلا. إنه يؤكد:"أنه يظل من الصحيح دون شك أن من الأنفع للناس أن يعيشوا طبقاً لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية لأنها، كما قلنا، لا تتجه إلا إلى تحقيق ما فيه نفع حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك فإن كل إنسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر الإمكان. ولكن ذلك مستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء وما دام العقل لا يعطي حقوقاً تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع أنه لا يوجد إنسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم لا يوجد إنسان واحد لا يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته".

كيف يمكن الخلاص من حال العداء والكراهية التي قد تنجم عن عمل كل فرد طبقاً للحق الطبيعي؟ يجيب سبينوزا:"...لنلحظ أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا هم لم يتعاونوا، إذا هم ظلوا عبيداً لضرورة الحياة ولم يعملوا على تنمية عقولهم… ومن ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان، وعلى أفضل نحو ممكن، كان لزاماً عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد (الدولة)، وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم على الأشياء جميعاً، بحكم الطبيعة، أصبح ينتمي إلى الجماعة ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته بل قوة الجميع وإرادتهم".