أحياناً، وتحت وطأة السجال السياسي، يميل بعضنا الى نسيان حقائق هي كالغابات قياساً بالأشجار. فالكلام على العراق، قبل أيام على انتخاباته، ينصبّ كله على الاحتلال الأميركي بوصفه سبباً وحيداً للمعضلة العراقية الكبرى. والراهن ان الاحتلال المذكور، والحرب التي أفضت اليه، لا يجوز تبرئتهما بحال من الأحوال. بيد أن أحد عناصر اتهامهما انهما سارعا في كشف الوضع العراقي القائم، وتسرعا في إحداث انكشافه المدوّي.
والمقصود بالكلام ان ثمة بلداناً في «العالم الثالث»، منها العراق، لا تقوى على احتمال التحولات الكبرى، أكان تقييمنا لهذه التحولات إيجابياً أم سلبياً. يقال هذا وفي الذهن حركة نزع الاستعمار نفسها، وهي التي ترافقت، في العالم العربي، مع انفجارات كادت تطيح بلداناً كالجزائر (الحرب الأهلية بين بن بله وبن خدة) واليمن الجنوبي سابقاً (حرب الجبهتين القومية والتحرير). وهناك كثرة من البلدان (السودان أولاً ثم سورية والعراق) نجحت في «تفادي» النزاع الأهلي بإقامة أنظمة عسكرية تصادر الحراك السياسي وتشله. وما عرفه العالم العربي عرفته افريقيا. إذ ما أن نالت الكونغو استقلالها في 1960 حتى أعلنت كاتانغا انفصالها، وكان النزاع الأهلي الذي كان أول ضحاياه رئيس الحكومة بياتريس لومومبا. وما لبثت نيجيريا ان حذت حذو الكونغو مع إعلان بيافرا انفصالها. ولئن لجأ نيكروما، في غانا، الى حكم ديكتاتوري يحول من خلاله دون انفصال اثنية الأشانتي الكبرى، وهو ما فعله حكام أفارقة كثيرون، حمل استقلال زيمبابوي، أوائل الثمانينات، شبح نزاع أهلي بين حزبي «زانو»، ووراءه اثنية الشونا، و«زابو» ووراءه اثنية نديبيلي.
وقصارى القول ان مجتمعات عدة في «العالم الثالث» لم تحتمل، ولا تزال لا تحتمل، تحولات تاريخية ضخمة حتى لو كانت نيلاً صريحاً للاستقلال ونزاعاً صريحاً للاستعمار. وحتى البلدان شبه الأوروبية شبه العالمثالثية، كيوغوسلافيا السابقة، ناهيك عن البلدان السوفياتية الآسيوية، لم تُجد استقبال التحول التاريخي الذي مثله انتهاء الحرب الباردة وتفسخ الاتحاد السوفياتي، فانفجرت أوضاعها التاريخية «المصنوعة» لظروف أخرى وتوازنات سلطوية مختلفة.
وهذه جميعاً مردها الى أسباب معقدة في التواريخ الثقافية التي نمت على نحو يغاير التاريخ الغربي كما تمحور حول الدولة - الأمة. وإذا كان لتقدير كهذا ان يرد السجاليات السياسية الساخنة الى أحجامها الطبيعية، بقي ان التغلب عليه لا بد أن يكون هادئاً وتدريجياً، وهو ما لا توفر الحرب والاحتلال الاميركيان إلا عكسه. إلا أن إدراك المعنيين المباشرين بالأمر لا يقل أساسية عن «إدراك» أميركا: فهل الهاجس العميق لنُخبنا وثقافاتنا هو الاقتراب من نموذج الدولة - الأمة، وهو ما يدرجهم في أفق كوني يتحقق الاندراج فيه تدريجاً وبهدوء، ام انه البقاء في عالم لا ينتج إلا الحروب الأهلية نتهم أميركا بكل أسبابها ونحظى بكل الأهازيج التي تصف صمودنا فيها؟
والتكتم عن هذه المسألة قد يكون سببه الحماسة حين تقتات على المعرفة، وقد يكون السجالية المرفقة بالكبرياء، والمتجهة الى إسباغ الأبلسة الكاملة على «العدو». لكن هذا التكتم لا يحل مشكلة ينبغي أن نواجهها بصراحة كيما نتصدى لحلها. لا يغير في ذلك أتصاحب الأمر مع وجود «عدو» يفاقم المشكلة، على ما هي الحال في العراق اليوم (وعلى ما كانت في بلدان أخرى كالكونغو حيث لعب البلجيك دوراً أساسياً في الانفجار)، أم لم يتصاحب مع وجود هذا العدو (كما هي معظم الحالات الأخرى).
ملاحظة: السيد أبو مصعب ليس فقط ضد انتخابات بعينها، بل ضد الانتخابات من حيث المبدأ. أي أن العراق، منظوراً اليه من زاوية السيد الزرقاوي، قد تكون مشكلته أعقد من سائر البلدان!