أيام في جمهورية الأرض والنساء·· ملف شامل يتخذ من المشاهدة الميدانية مدخلا لمعرفة أهم القضايا المطروحة على الساحة الكويتية من الداخل، وعلاقتها بمحيطها وأمتها، ويتجاوز المشاهدة الى الحوار المباشر مع أطراف فاعلة وقيادات لنخب مؤثرة، منتهيا الى نتائج لا تؤدي بالضرورة الى اصدار أحكام ، لكنها تعين القارئ والباحث لجهة اعادة قراءة الواقع الكويتي بجوانبه المختلفة، بعيدا عن الظلم من خلال الأحكام المسبقة، وبعيدا أيضا عن خلفيات تاريخية، وحاضرة تعلقت بمصير الدولة في زمن تكالب عليها فيه ذوو القربى·
لقد جاء عنوان الملف - كما ذكر أعلاه - محددا لمسألتين، الأولى: الأرض والمقصود بها وضع الكويت على الأرض بعد رحلة آل الصباح - التي كانت طويلة وشاقة - وما تبع ذلك من نظام شورى انتهى بالرحالة الغربيين، اعتمادا على نصوص عربية سابقة الى اعتبارها جمهورية وذلك لما تميزت به مقارنة بجيرانها، والخرائط التي نشرت بعد غزو العراق للكويت تؤكد ما نذهب اليه، ولسنا هنا بصدد تأكيد مشروعية الكويت من حيث هي دولة جمهورية كما تقول كتب التاريخ، أو من حيث هي وراثية كما هو الواقع الراهن·
المسألة الثانية: النساء من حيث هن صوت الآن يعلو من أجل تطبيق الدستور الذي يتيح لهن المشاركة السياسية·· وكل النقاشات بما في ذلك الجلسات الخاصة تدور الآن حول مشاركة المرأة من عدمها في الحياة السياسية، سواء من خلال تأييد الليبراليين المحدود، أو من رفض الاسلاميين المطلق، ولكل حساباته السياسية·
وفي مجال المشاهدة بين الأرض ونظام الدولة من جهة وبين غضب النساء وطموحاتهن من جهة أخرى يتحرك هذا الملف الشامل في مجالات الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد وحتى الفن - بدرجة نسبية - دون ان نحدد مسار كل مجال، حيث قد يطغو مجال على آخر، مما قد يعطي انطباعا لدى القارئ لجهة الاحساس بالخلل أو اللا توازن، لذلك علينا ان نوضح هنا، ان ذلك مرده الى عاملين، الأول: الزمن القصير، والثاني: توفر أصحاب الرؤى لهذا التيار أو ذاك·· وهذا يعني اننا لم نتعمد التعامل مع جهة دون أخرى أو تغليب اتجاه على آخر·
ومن الناحية العملية، وبعيداً عن الجانب القيمي وحتى التفسيري، فان هذا الملف يعطي صورة أكثر وضوحا عن الكويت، لجهة تهديم الصنمية والتصنيف القائمين في السابق من ناحية اعطاء أحكام لجهات وجماعات قد تكون لها مصلحة في ذلك، حيث روجت للمسخ من ناحية الهوية، والهروب من الانتماء، والخيانة، والذوبان في الآخر وهي جميعها أحكام لها في نظر أصحابها ما يبررها، لكن الواقع يكذبها·· وهنا محاولة جادة وواعية لتفسير كثير من القضايا الداخلية ذات الصلة بالعلاقات الخارجية على مستوى المحيط، والأمة والعالم·
من ناحية أخرى فان هذا الملف يقدم متابعة قصيرة زمنياً، حيث لم تستغرق أكثر من سبعة أيام، قضيناها رابطين النهار بالليل متنقلين بين عدة أماكن ومواقع، وملتقين لشخصيات لها دورها ورؤيتها وتأثيرها، اختلفنا معها في نظرتها لكثير من القضايا، والتقينا معها في قليل منها، ولذلك من الطبيعي حدوث الاختلاف حولها·· وضمن حلقات هذا الملف ستبدو كل الأفكار السابقة سلاحنا لمعرفة الكويت، وذاك خير سلاح لمن أراد المعرفة بعيدا عن سوء الظن وخلفيات الأحكام، والقناعات والحسابات السياسية·

جمهورية العرب الأولى·· ورحلة العتوب وآل الصباح

كان الاعتقاد السائد لدينا قبل سفرنا الى الكويت، ان اعداد ملف شامل سيظل محصورا ومحددا بالحاضر والمسقبل، وحتى اذا عدنا الى الماضي، فلن يتجاوز ذلك تاريخ الغزو العراقي (أغسطس 1990)وبلا شك ان تلك النظرة حكمتها معطيات بعينها، جعلتها موجهة عن دون قصد، لذلك فان تركيزنا - قبل السفر - اتجه صوب حقائق الأرض ورهانات المستقبل، حتى اذ بدأنا التحرك في الميدان، وجدنا ان تلك الخلفية ناقصة، والمخرج هو قراءة الماضي البعيد، أي منذ نشوء الدولة، فكيف كانت البدايات؟ في هذه الحلقة محاولة لتحديد شكل دولة الكويت في الماضي بناء على دراسات علمية موثقة، تجمع بين الأرض والعائلة الحاكمة في البداية لم يكن أحد يعرف انها واعدة - لانطلاق القبيلة صوب الاستقرار، ثم الدولة في شكلها الحالي، اعتمادا على ديموقراطية مبكرة ليست تلك التي كانت في ستينيات القرن الماضي - اعتبرت شورى لدى السكان، وأُرخ لها، عبر الخرائط - اعتبارها نظام حكم يعّبر عن دولة جمهورية·
الكويتيون·· والعنقاء
ما كانوا في انتظار أحد ليؤرخ لهم، أو يفسر أو يعطي معنى للدولة·· لقد كانوا محملين بتجارب التاريخ، مثل كل سكان منطقة الخليج، فالذين غاصوا حتى الأعماق لاستخراج اللؤلؤ والمرجان من أجل العيش والبقاء لا يثنيهم عن رحلة ايجاد موقع في التاريخ نكران البعض لوجودهم، وربما لهذا السبب كانوا يدركون أكثر من غيرهم عند الأزمات، انهم يتجاوزون الصعاب، ويبعثون من الرماد مثل العنقاء، وليسوا مثلها قادمين من عالم الاسطورة، وانما هم حقيقة وواقع·
الماضي في تجربة الكويتيين ليس التاريخ فقط، بل انه الجغرافيا، وفي مراحل معينة تكون الأرض هي الدليل الوحيد أو الأكثر تفسيرا للوجود، وكذلك كان أهل الكويت - قبائل متعددة يجمعها الأمل والثقافة والتقاليد - سواء اتخذت بلادهم اسم الكويت أو كاظمة أو القرين فجميع الأسماء تؤكد الانتماء للمكان حيث وجود السكان، وما يقال هنا ليس اعادة تأكيد لحقائق معروفة، محفورة في الذاكرة الجماعية لأهل الكويت، ومدونة نصوصا في الوثائق، وانما هو مدخل أولي لمعرفة تفاصيل الحياة الكويتية الراهنة
دولة المفاجأة
ومرة أخرى - مع انه سبق ذكرنا لهذا - ان تأكيد الحاضر وأهمية ما كنا نعرف انه سيمر عبر الجغرافيا، وكذلك بالنسبة للماضي فلا خجل من التاريخ، ولا تهاون فيه، لكن هذا لم يحل دون مناقشته والاحتكام اليه، وهذا من الجرأة، لأن التاريخ في عدة مراحل تم تزويره، ولم يستطع أحد أن يحمي أهله من التعسف والظلم·
والقول بالمرور عبر الجغرافيا لا يعني فصل التاريخ عنها، ولكن يفسر ما سنذكره لاحقا، لجهة التأكيد على ان الوثائق الخاصة بالكويت كشفت وأكدت وفاجأت الكثير منا بقيام أول جمهورية عربية في التاريخ، لهذا لا يجوز لدول أخرى وليدة أو جديدة عهد بالديمقراطية، ناهيك عن الأخرى ذات الأنظمة الديكتاتورية، ان تزايد على دولة الكويت خصوصا اذا تم الاحتكام للتاريخ، كما لا يحق لها ان تشكك في نظام حكمها·
هذه الصورة - الواقعية - ظلت بعيدة عنا، لأننا لم نعد للنصوص واكتفينا بالأحاديث المتعلقة بها وبتلك الأخرى التي كانت تخدم فكرة تثبيت جدار الفصل والعزلة بين الدولة العربية من خلال التأكيد في خطاب استهلاكي عن الوحدة·· حتى لو جاءت بالقوة بغض النظر عن أهداف أصحابها، اليوم نعيد مشاهدة الصورة الحقيقية للكويت - غير المزيفة - معتمدين على التاريخ والوثائق وخصوصا الخرائط·· فماذا نجد؟ نتابع الاجابة في تفصيلات هذه الحلقة الأولى من ملف جمهورية الأرض والنساء ·
في يوم - بدا لنا شديدة البرودة - كانت بداية زيارتنا الميدانية الى الكويت·· ولا ندري ان كان واضعوا البرنامج قد خططوا بوعي أو جاءت صدفة وقدرا لانطلاق الزيارة من مركز البحوث والدراسات الكويتية حيث الجمع بين التاريخ والعلم، الدولة والشعب، الخصوصية المحلية والعالمية الذهاب بعيدا للبقاء هنا - هوية واستقرارا وتجذرا - وهذا الجمع - ان جاز التعبير - كان مقصودا وموثقا، يبدو جليا في سرد ذكريات الألم الدفين لأخوة عصفت بها هوى الأنفس الظالمة، ولم يجد الكويتيون - لحظتها إلا العودة الى التاريخ·· حتى لو كان حبات حصى·· أرض جرداء·· ما كان أحد ينازعهم فيها·· الى سنوات التية من أجل الاستقرار·· انها رحلة طويلة عبر الزمان والمكان، تتطلب التوثيق والتأمل والقراءة، والاحتماء بالوثائق التي كانت أصدق أنباء من المدافع والدبابات·· وهكذا فعلوا·
التاريخ·· ورحلة البحث
في قاعة امتدت أفقيا، واتخذت شكلا مستطيلاً، لم نغادرها لأنها كانت البداية، ولأن رئيس المركز الدكتور عبدالله يوسف الغنيم - اعتذر عن لقائنا لأسباب موضوعية بالنسبة له وربما لنا أيضا - ولأن الدراسات التي جاءت في شكل كتب جذبتنا، فأخذتنا الى حيث البدايات·· وقادنا في رحلة الشرح والاجابة عن الأسئلة الدكتور يوسف عبد المعطي والاستاذ سليمان عبدالله العنزي - المستشاران بالمركز·
تركز الحديث في ذلك اللقاء المثمر عن جملة من القضايا، أهمها: عودة الكويت الى نفسها، حديث هو مثل النجوى لأهلها وكالبوح للأحبة وكالصراخ في وجه الافكار، وليس هذا وصفا للأشخاص، وانما للنصوص أيضا، حيث دارت معظمها على اثبات الوجود بدراسة لكل مجالات الحياة·· في حياة ما قبل النفط، عندما لم يهب اليها الجيران للنهب، أو الأبعدون للطمع أو النصرة·· حياة أولئك الرحل الذين واجهوا العواصف، ثم ركبوا البحر فطوعوه رغم هيجانه وأمواجه المتلاطمة·
يقول الدكتور يوسف عبد المعطي: لقد كشف عنا الغطاء - نحن أهل الكويت - فأبصرنا حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا، عندما طعنا في شرعية وجود الدولة·· لقد أيقظتنا الضرورة، فذهبنا للبحث في الوثائق ووجدنا الأدلة الدامغة، وهذه نصوصها بين أيديكم·
ما ذهب اليه الدكتور عبدالمعطي يعود بنا الى أكثر من أربعة عقود خلت بدت فيها الكويت خط الدفاع الأول عن العروبة على الأقل على المستوى الثقافي، وما كتب خلال تلك العقود خير دليل، وقد اعتقدت - صادقة - ان انتمائها العربي هو الحماية والملاذ، الحاضر والمستقبل، القوة والثبات، حتى اذا ما حل أغسطس عام 1990 اكتشفت ان الانتماء للقوم والأمة ليس بالضرورة حماية، بل قد يكون دافعا للخطر ، فماذا فعلت بعد ذلك، وهي التي رفضت ان تضع أعلام الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة على نقالاتها النفطية في حرب الخليج الأولى، لجأت الى من ينقذها مع بقائها محافظة على هويتها، وشاركها في ذلك بعض الدول العربية، وكانت الحماية الدولية خيارا عربيا، وليس كويتيا فقط·
رؤى استشرافية
لقد انعكس ذلك بشكل مباشر عن الرؤي والتصورات، ومنها الجوانب البحثية، وبناء عليه انشئ مركز البحوث والدراسات الكويتية، الذي يركز بالأساس على القضايا الخاصة بالكويت في مختلف المجالات - كما ذكرنا سابقا - وللعلم فهذا متمم وليس مناقضا للمراكز البحثية الأخرى، ويواجه مشكلة أساسية - حسب رأي الباحثين - هو العجز عن توصيل رسالته داخل المجتمع الكويتي وقد يعود ذلك لانشغال الشباب - خاصة - بقضايا الحاضر وتطورات العصر أكثر من اهتمامهم بالماضي·· هذا في الوقت الذي تصل فيه اصداراته وبلغات مختلفة لعدد من مراكز البحوث والدراسات، والمكتبات في دول العالم، خصوصا الدول العربية، وهذا انجاز حسب له، يضاف الى تقدير الباحثين والمهتمين لجهة التأكيد على دراساته المتميزة من ناحية سخائها المعرفي، والتزامها بالجانب العلمي، وتحريها للموضوعية والشفافية، وكثرتها والسرعة في الانجاز، متجاوزة من حيث الألفاظ أفعال المعتدي، وان كانت في كل مضامينها تحمل دلالات ومعاني المواجهة لذلك المعتدي البائد·
لا يكتفي المركز بشهادة الماضي ليثبت شرعية الحاضر، ولكنه يتجه صوب المستقبل عبر رؤى استراتيجية - استشرافية، كما جاء في كتاب الكويت وتحديات القرن الواحد والعشرين ، الذي أعده الدكتور زين الدين عبد المقصود غنيمي وفيه تم التأكيد على تحديات متوقعة يجب مواجتها من الآن ومنها: احتمال نضوب النفط والغاز الطبيعي مع مطلع النصف الثاني من القرن الحالي، والنمو السكاني المتزايد بوتيرة متسارعة ومتضاعفة، وتحقيق الأمن المائي للأجيال القادمة وتوفير مصادر الطاقة المستديمة اللازمة لتشغيل محطات تحلية المياه·· الخ مما يتطلب رؤية واضحة من الآن لحماية الدولة الكويتية·
وبذلك الكتاب وغيره من الكتب الأخرى يتطلع المركز الى المستقبل، غير ان تناوله للقضايا الراهنة لا يزال مرتبطا بالماضي لجهة المرجعية، وهو بذلك يكشف لنا عن أسبقية الكويت السياسي لجهة تأكيد الشورى - أو حتى ما يسمى بالديمقراطية في عصرنا، ليس هذا فقط، بل واعتمادا على الخرائط الخاصة بالجزيرة العربية والتي أعدها أجانب - يظهر لنا المسمى التاريخي لدولة الكويت ، حيث جاء تحت اسم جمهورية الكويت، وذلك في 1818 أي منذ أكثر من 180 سنة، ما يعني انها أول جمهورية عربية، بل من الجمهوريات الأولى في العالم - وللعلم فإن التسمية هنا لم تطلق لاعتبارات تتعلق بالحيز الجغرافي، ولا نتيجة لتقسيم خريطة الوطن العربي، بل لطبيعة الحكم السائد آنذاك، وجاء ذلك في شهادات الأهالي والسكان، قبل ان تكون هناك انتخابات في المنطقة ولا نظام دولة يخضع فيه الشعب الى دساتير ومواثيق وقوانين تنظم حياته السياسية·
لقد بين مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية أهمية التاريخ، وعلم الخرائط - في عدد من دراساته الموثقة الشيقة - لجهة التأكيد على اثبات الوجود العربي في هذه المنطقة عبر هوية متميزة، حافظت عليها القبائل وأجمعت على الالتفاف حول شيوخها وحكامها، وربما لتلك الخلفية التاريخية يعود التوجه الحالي الذي نراه في الكويت، حيث كانت سباقة منذ استقلالها الى تبني رؤية واضحة تحدد علاقة الحكام والمحكومين، هي أقرب الى الشورى، والديموقراطية - في أضيق الحدود - على حد تعبير كثير من الكويتيين الذين التقيناهم عند اعدادنا لهذا الملف·
عائلة واحدة·· وديمقراطية جماعية
جمهورية الكويت، أسبق وأقدم من دولة الكويت، وربما تعد التسمية الأخيرة محاولة مبكرة لاثبات الوجود، وكأن أهلها كانوا يدركون ما سيواجههم في التسعينيات من القرن الماضي، فتمسكوا بالاسم، متفادين - في اختيارهم السياسي - جيرانهم في المنطقة، فتخلوا عن النظام الملكي طواعية، وان كانت السلطة قد ظلت في حدود عائلة واحدة· مما يعطيها طابع القبيلة أكثر من طابع العائلة أو الأسرة الواحدة·
هذا الأمر يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار عند متابعة النشاط السياسي للكويت، على اعتبارات بعض المراقبين يرون ان هناك أزمة سلطة في الكويت، ويعود ذلك الى ميراثها السياسي الطويل مقارنة بعدد من الدول العربية التي لم تر الاستقرار، إلا في سنوات قليلة·
وبالعودة الى الدستور نجد مسألة الحكم أكثر وضوحا لجهة القول انها تشمل طابع الملكية المقيدة، والجمهورية في شكلها الأولي، فقد نص في مادته الرابعة على ما يلي: الكويت امارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح، ويعين ولي العهد، خلال سنة على الأكثر من توليه الأمير، ويكون تعيينه بأمر أميري بناء على تزكية الأمير ومبايعة من مجلس الأمة، تتم في جلسة خاصة بموافقة أغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس وفي حالة عدم التعيين على النحو السابق يزكي الأمير لولاية العهد ثلاثة على الأقل من الذرية المذكورة فيبايع أحدهم وليا للعهد، ويشترط في ولي العهد ان يكون رشيدا عاقلا وابنا شرعيا لأبوين مسلمين ·
وكما نلاحظ فإن وراثة الحكم هنا تخص عائلة أي انها تتحرك ضمن فضاء أوسع من النظام الملكي، حيث يكون ولي العهد - في الغالب - ابن الملك، أو أخاه اذا لم يكن له ابنا اضافة الى ان اختيار ولي العهد مرتبط بمجلس الأمة وبأغلبيته، سواء أكان بتعيينه بأمر أميري بناء على تزكية الأمير لشخص واحد، أو لثلاثة يتم اختيار أحدهم، مما يخفف من ضغط النظام الوراثي ويعطي فرصة - ولو ضئيلة للممارسة الديمقراطية - ولم يأت هذا من فراغ، وانما نتيجة لتجربة سياسية طويلة الأمد تعود في الأساس الى رحلة البحث الشاقة من أجل الاستقلال·
الهجرة من نجد
الحقيقة السابقة تؤكدها المراجع التاريخية، ومنها استقى الدكتور يوسف عبد المعطي معلوماته التي جاءت موثقة في كتابه الكويت بعيون الآخرين حيث يقول: حين فرضت الظروف بقسوتها واستمرارها على العتوب ومن بينهم آل الصباح ان يهاجروا من موطنهم نجد بحثا عن موطن جديد يوفر لهم سبل العيش والأمن، تجولوا في الخليج وشواطئه فترة اكتسبوا خلالها قدرا من الخبرة بالتعامل مع البحر والوعي بامكاناته واستغلال موارده، ولكن همهم الأكبر كان البحث عن موقع يكون لهم يمنحهم الأمن واستقلال القرار وفرص الرزق، فقد عانوا في أماكن عدة نزلوا بها - خلال فترة تجوالهم - مما أبداه سكان تلك الأماكن من ضيق لنزول مجموعات كبيرة مهاجرة بينهم، وما ينشأ عن ذلك عادة من مشكلات المزاحمة على الرزق والسلطة والتبعية وحرية الحر كة·· وغيرها (ص17)·
من هناك يمكن لنا فهم طبيعة السلطة في الكويت، حيث أهم ما يميزها هو الاستقرار مقارنة بكثير من الدول العربية الأخرى، خصوصا وان هناك اختيارا للاقامة، وإقامة الدولة بعد ذلك في مكان لا تشجع ظروفه على المطامع أو المزاحمة، بالنسبة للآخرين، في الوقت الذي رأو فيه موقعا مهما كبوابة على رأس الخليج، من امكانات للصيد والغوص على اللؤلؤ والتجارة والحركة، والأهم من كل هذا الاستقرار، وبفضل جهودهم المتواصلة واصرارهم ونشاطهم تحول الى كيان مزدهر شهد له كل من زاره في فترة مبكرة من تاريخه·
الكويت·· الأبراج وبطيخ البصرة
لقد جاءت حال الاستقرار تلك في عدد من الكتابات التي أُرخ أصحابها للكويت، سواء أكان مجرد عبور لمسافر، أو دراسة الجغرافيا والتاريخ، ففي الحالة الأولى، نجد مخطوطة للرحالة السوري مرتضى بن علوان الذي توجه للحج عام 1709 ومر بالكويت ، تحمل فقرات خاصة بوصف الكويت جاء فيها على الخصوص: دخلنا بلدة يقال لها الكويت بالتصغير بلدة لا بأس بها تشابه الحسا بأبراجها ومبانيها ، أما عن أسواقها فيقول: أما الفاكهة والبطيخ وغير ذلك من اللوازم فيأتي من البصرة كل يوم في المركب، وتأتيها الحبوب من الحنطة وغيرها، لأن أرضها لا تقبل الزراعة وأسعارها أرخص من الحسا ·
ويعلق الدكتور عبد المعطي عن المخطوطة السابقة بقوله: لا شك ان ذكره لمباني الكويت يؤكد وصول - هذه الأخيرة - الى مرحلة من الأمن والاستقرار والازدهار، لا بد ان تكون قد استغرقت فترة زمنية لتصل الى ذلك، مما يدعو الى اعادة النظر في التاريخ المتداول حاليا لنشأة الكويت ، أما بالنسبة لنا، فحال الاستقرار في بداية القرن الثامن عشر هي التي ساعدت الدولة الكويتية في السنوات الماضية على الصمود أمام الادعاءات القائلة بعدم شرعية وجودها، ثم ان تراكم التاريخ يدفعنا الى البحث في أسباب الاستقرار، التي يرى البعض انها صارت معدومة بعد حوادث الارهاب الأخيرة النابعة من الداخل·
الحديث عن دولة تشكلت - طبقا لوثيقة مرتضى بن علوان - منذ حوالى ثلاثة قرون محفوف بجملة من المحاذير، أولها: ان شكل الدولة - ان جاز اعتبارها كذلك - ليس هو ما نراه الآن، وهذا يعني ان قياس الغائب عن الشاهد لا يحقق الهدف المرجو من المتابعة وثانيها: ان الوثيقة تتكلم عن بلدة اسمها الكويت، وليس دولة، بدليل ان صاحبها تحدث عن الناحية العمرانية والأسواق، أي معاملات السكان، ولم يتطرق الى شكل الحكم، مما يجعل الترويج لمفهوم الدولة بالمعنى العصري نوع من لي الحقائق وان كان لا يمنع هذا من القول بوجود نواة للدولة، وثالثها: ان المفاهيم المتداولة عبر أزمنة مختلفة ليست بالضرورة هي نفس المفاهيم السياسية المتداولة في الحاضر، وهذا ينتهي بنا الى القول: ان الكويت ذات تجربة تاريخية من ناحية تشكل الدولة سابقة لكثير من دول العالم، انتهت الى اعتبارها دولة في خرائط الرحالة الأجانب·
400 عائلة من العتوب
أما في الحالة الثانية والخاصة بدراسة الجغرافيا والتاريخ، نجدها في ذلك السؤال الذي طرحه ستوكويلر (1831) ونقله الينا بيتر لينهاردت، حين قال: كيف أختارت أربعمائة عائلة مهاجرة من العتوب، موقع الكويت للعيش فيه مع ندرة المياه به، ومن ثم تم عدم صلاحية الأرض للزراعة، وكون الماء المتوافر في بعض الآبار بالكويت أقرب الى الملوحة؟ ويجيب لينهاردت على السؤال السابق قائلا: ان عدد سكان الكويت قد زاد عشرة أضعاف خلال القرن التاسع عشر بعد زيارة ستوكويلر موضحا ان مطلب الأمن الذي يوفره موقع الكويت الجغرافي كان أساسا في الاختيار بالنسبة للمجموعات المهاجرة، وان وجود ساحة مائية حتى في غياب جبال أو موانع جغرافية قد يوفر فرصا دفاعية ·
الأمن اذن هو القضية الأساسية لسكان الكويت، وقد وقفوا بأنفسهم للدفاع عنه حتى ان أحد المؤرخين الغربيين ويدعى بكنجهام يسجل في كتابه عام 1861 اعجابه بأهل الكويت قائلا: ان الكويت ما تزال مشهورة بأن شعبها هو الأكثر شجاعة وتعلقا بالحرية في الخليج كله، وسكان مدينة الكويت هم في أغلبهم من التجار المنشغلين بكل فروع العمل التجاري في الخليج، ويخرج من ميناء الكويت مائة مركب شراعي على الأقل ما بين كبير وصغير، ويتمتع بحارة تلك المراكب وأصحابها بسمعة عالية من نبل الخلق والمهارة والحزم والشجاعة، والسؤال الآن هل تلك الشجاعة التي عرف بها أهل الكويت كانت تظهر دون قائد أو شيخ ما دامت القبائل هي الأساس في تحريك كل الأحداث بالمنطقة ؟·
حكومة أبوية
الاجابة نجدها في النصوص التاريخية، حيث يذكر تريد جز المسؤول الثاني عن الوكالة البريطانية التجارية في البصرة، التي انتقلت عام 1793 الى الكويت نتيجة لمضايقات العثمانيين، وعرقلتهم لأعمالها: ان أهل الكويت وحدهم هم الذين دافعوا عن بلدهم بشجاعتهم والتفافهم وثقتهم الكاملة في قيادة شيخهم عبدالله بن صباح، وهو رجل مهيب، كبير السن، ذو طلعة قيادية توحي بالقوة، وينظر اليه أهل الكويت كوالد أكثر من نظرتهم اليه كحاكم ، ويقول الدكتور عبد المعطي ان الوصف السابق لحاكم الكويت، قد تكرر في عدة تقارير سابقة منها تقرير لويس بلي (1863) حيث قال: ان حكومة الكويت حكومة أبوية، فالشيخ يدير الأمور السياسية والقاضي مستقل في حكمه فيما يعرض عليه من منازعات وقضايا، ويخضع الشيخ الحاكم نفسه لحكم القاضي وقراره·· ونادرا ما يفرض الحاكم عقوبات وفي الواقع لا يبدو هناك أي تدخل حكومي في أمور الناس، ولا تبدو حاجة الى مثل هذا التدخل
ويشتد اعجاب بلي بهذا الأسلوب من الحكم واثاره في المجتمع والناس، فيوجه النصح لحكومته بأن تفيد من نهج الكويت، فيقول: اذا كان العرب قد استطاعوا ان يفعلوا كل ذلك في أقصى الأقاصي من الخليج الفارسي، فلمّ لا نفعل نحن ذلك فنكسب ثقة جيراننا باشاعة العدل وتوفير احتياجات الناس المادية من خلال تمسكنا بهذه القيم الأخلاقية·
جابر العيش
تلك العلاقة الأبوية بين الحاكم وشعبه أشاد بها أيضا ويليام فيسي وجيليان جرانت في كتابهما الكويت بعدسات الفوتغرافيين الأوائل ، مشيرين الى ان رفع المعاناة عن المحتاجين والسخاء في سد حاجتهم كان أمرا يحرص عليه شيوخ الكويت ضاربا المثل بالشيخ جابر الأول (1814 - 1859) الذي اطلق عليه أهل الكويت جابر العيش لسخائه واهتمامه بالمحتاجين فقد كان يوزع عليهم العيش وهو الاسم الذي يطلقه أهل الكويت على الأرز·
تلك هي حال الكويت في الماضي في شقها السياسي والمجتمعي، ومنه تحددت طبيعة السلطة ونظام الحكم، وصورة الدولة، وما يحدث اليوم هو مواصلة لمشوار الماضي، مع الاعتراف بدور القبيلة، وحداثة المجتمع وتغير الظروف الدولية، وهو ما سنتابعه تفصيلا في الحلقات القادمة.