قدمت كونداليسا رايس، أمام الكونغرس الأميركي، تعريفاً للتوتاليتارية: lt;lt;إنها الثقة المتعصبة التي يملكها إنسان بأن لا بديل عن الطريق التي يدعو إليها، وهي ثقته المطلقة بأن التاريخ إلى جانبهgt;gt;. كانت تتحدث عن النازية والشيوعية. لم تكن تتوقع أن يسجن جورج بوش خطابه التدشيني لولايته الثانية في اسار هذا التعريف. لم يفعل أبو مصعب الزرقاوي شيئاً آخر قبل يومين. إن الطوطم الديموقراطي هو هو على لسان المبشّر الأصولي الأميركي أو على لسان المبشّر الأصولي الأردني.
خلاصة ما قاله بوش هو أن ولايته الأولى كانت جيدة إلى حد أنه سيحاول أن يجعل ولايته الثانية ممتازة. مارس هوايته المفضلة في إغماض العينين عن الوقائع العنيدة من أجل أن يعد بالمستقبل نفسه أو، كما قالت رايس، من أجل lt;lt;أن يبني على الإنجازاتgt;gt;!
الخلاصة السياسية من كلام الرئيس أنه ماضٍ في الطريق نفسه، وأن ما يعنيه بالانفتاح على الآخرين، الحلفاء الأوروبيين تحديداً، هو أنه سيبذل جهداً إضافياً لإقناعهم بصواب رأيه وخطأ رأيهم. وزيرة الخارجية الجديدة تسمي هذه lt;lt;الانعطافةgt;gt; إحلال lt;lt;الحوار محل المونولوغgt;gt;. اختبر الكنديون هذه التجربة بعد الانتخابات الأميركية فازدادوا توتراً، وسيختبرها الأوروبيون الشهر القادم ليتأكدوا أن لا شفاء لبوش من معتقداته.
لن يتغيّر بوش في الولاية الثانية إلا إذا أرغم على ذلك. ويفترض بكل من راهن على تحوّل أن يراجع حساباته. صحيح أنه يريد لنفسه مكاناً في التاريخ، ولكن الأصح أنه يريد لنفسه مكاناً في الآخرة. ثم أن المكان في التاريخ قد لا يكون مختلفاً، في رأيه، عن الثاني طالما أن اندماج القيم الأميركية بالمصالح الأميركية أزاح العقبة الأخيرة من درب أن تكون السياسة الأميركية تلك اليد الإلهية التي ترد البشر إلى صورة خالقهم.
أحدث خطاب بوش، والشرق الأوسط موضوعه الضمني، ضجة سلبية في أوروبا أكثر من تلك التي أحدثها في العالم العربي. وتأكد، مرة أخرى، أننا دخلنا في سبات يمنعنا من إدراك معنى أن نكون تحولنا إلى موضوع للتاريخ، وإلى مجرد ساحة لصناعته على مدى الأجيال القادمة. وبما أننا في سبات فلا بأس أن يمر كابوس الزرقاوي سريعاً، الأهم من ذلك أن الثابت هو الاستفادة من الرقاد في سبيل استدراج الأحلام الوردية.
ليس أكثر من النخب العربية الحاكمة، في العالم كله، رهاناً طفولياً على أن شيئاً ما سيجعل بوش 2 أكثر إنصافاً من بوش 1. يمارس حكّامنا، من المحيط إلى الخليج، هذه الرياضة الذهنية الوطنية. ويدللون، مرة أخرى، أن لا مهرب لهم سوى العجز أمام هذا الارتطام الهائل بين ما يعرفون أنه واجبهم ورغبة الأكثرية بين شعوبهم وبين ما لا يستطيعون حتى المباشرة به.
كانت هذه النخب العربية الحاكمة تلوّح بالتعويذة إياها: بما أن الرئيس الأميركي يتحرّر، في ولايته الثانية، من الأصوات اليهودية فإنه سيكتشف الحقيقة البديهية القائلة إن مصالح بلاده هي مع العرب فيتبع، بالتالي، نهجاً متوازناً حيال القضايا التي تهمهم. هذه التعويذة، وهي من سقط المتاع، تتجاهل أن جورج بوش كان
متحرراً من أصوات اليهود في دورتين متلاحقتين وأنه إذا فعل ما فعل وسيفعل ما سيفعل فلأنه، بالدرجة الأولى والحاسمة، متحرر من... الضغط العربي.
أضيف ملحق إلى هذه التعويذة. قيل إن بوش مدين لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. وبما أن الثاني شديد الاهتمام بالنزاع في المنطقة فإن حليفه سيسايره ويرد إليه lt;lt;جميلgt;gt; المشاركة في حرب العراق. الخلاص إذاً، هو في بلير وأصوات اليهود. إلا أن الرئيس الأميركي رفض طلبي بلير (تعيين مبعوث، وعقد مؤتمر دولي) فجاء بلير إلى المنطقة ليبلغنا الرفض وليدخل تعديلاً على معنى مؤتمر لندن.
إن ما يمكن لبوش أن يكون قاله لبلير هو التالي: لقد حرّرنا شعبي أفغانستان والعراق وها نحن نجلب الديموقراطية إليهما. لذا نحن دائنان حيال المسلمين والعرب، وليس من المطلوب أن نحرّر الشعب الفلسطيني من الاحتلال. المطلوب هو أن يثبت الشعب الفلسطيني أهليته الديموقراطية وسيكتشف عند ذلك أن الاحتلال ليس هو المشكلة!
إن هذه هي الأطروحة المركزية لبوش في ولايته الثانية: سندعم الديموقراطية حيث يمكن لها أن تدعمنا وسنقاتل، باسمها، كل من يخالفنا. وما لم يقله الرئيس صراحة في خطابه قالته وزيرة خارجيته عند استجوابها، لتثبيتها، أمام لجان الكونغرس.
ففي رأيها أن 11 أيلول lt;lt;لحظة تأسيسيةgt;gt; دفعت الولايات المتحدة للنهوض من أجل محاربة الإرهاب والطغيان. إنها لحظة افتتحت عهداً صراعياً من نوع الذي وضع الولايات المتحدة في مواجهة النازية ثم الشيوعية. ولذا فإن الشعار هو lt;lt;استخدام الدبلوماسية للمساعدة في خلق ميزان قوى في العالم يشجع الحريةgt;gt;. فأميركا تواجه تحديات سبق أن واجهت مثلها وهي lt;lt;منخرطة، ثانية، في صراع طويل المدى مع إيديولوجيا مركبة من الطغيان والإرهاب والكراهية واليأسgt;gt;. لم يعد ممكناً الركون إلى التسويات لأن بوش lt;lt;كسر، في الشرق الأوسط، عقيدة الاستقرار على حساب الحريةgt;gt;. وهكذا فإن إعطاء الفلسطينيين حقوقهم كمدخل للتسوية ينم عن تفكير بال يغلّب الاستقرار. السياسة الجديدة تقول lt;lt;إن إقامة ديموقراطية فلسطينية ستساعد على إنهاء النزاع في الأرض المقدسةgt;gt;.
قدمت رايس شرحاً سياسياً مسبقاً لخطاب بوش الرؤيوي. لكن الاثنين، باعترافهما، صدرا عن مرشد واحد: ناتان شارانسكي. إن كتابه lt;lt;دفاعاً عن الديموقراطيةgt;gt; (أو lt;lt;قضية الديموقراطيةgt;gt;) هو كتاب العهد الجديد لجورج بوش. يقول الرئيس: lt;lt;إذا أردت أن تعرف كيف أفكر في ما يخص السياسة الخارجية اقرأ كتاب شارانسكي... إني أنصح بهذا الكتاب. إنه مختصر وجيد. إنه كتاب عظيمgt;gt;. لم يعجب بوش بالكتاب لأنه lt;lt;مختصرgt;gt; فقط بل لأنه ساعده في تنظيم أفكاره كما سبق لكتاب لبنيامين نتنياهو أن فعل مع رونالد ريغان. رايس من جهتها استخدمت مقطعاً من كتاب شارانسكي يتحدث فيه عن lt;lt;اختبار ساحة المدينةgt;gt;. ويقصد أن مقياس الحرية هو أن يقول شخص في ساحة المدينة ما يود قوله من غير أن يتعرض إلى أذى.
لم يسأل أحد شارانسكي إذا كان يمكن لهذه الساحة أن تكون ساحة مخيم جنين مثلاً. كما أن أحداً لم يسأل رايس ورئيسها عن السر في أن المهلة المعطاة للفلسطينيين لبناء مؤسساتهم الديموقراطية هي، بالضبط، المهلة المعطاة لأرييل شارون من أجل قضم القسم الأكبر من الضفة الغربية.
إن lt;lt;الزعم الديموقراطيgt;gt; هو القفاز الجديد للعدوانية الأميركية والتوسعية الإسرائيلية. وهناك من يفضله على الوطأة الثقيلة للامتهان الذي أوصلنا إليه الوضع العربي الرسمي المتهالك.