د. علي الشعيبي: يبدو أن ملامسة الجرح والكتابة والحديث عن واقع الرسالة الإعلامية العربية، محاولة محفوفة بكل المخاطر المتوقعة والمختبئة في ضمير الغيب وهواجس الغير. لم يعد الأمر يقبل المهادنة والتستر، فواقع الإعلام العربي رسالة ونهجاً ليس بخاف على كل ذي لب، ولكن جوقة المداحين ومتسلقي الشهرة المحيطين بصاحب القرار أو الطارقين على بوابة الشهرة وشباك الصراف لا يحيدون قيد أنملة عن خطواتهم المرسومة للشرب من كأس المحاباة والتستر بحماية الحريات والدعوة لإطلاق الكوابح ومنح المتلقي فضاءات لا محدودة للمشاهدة والاستماع والقراءة، وطرح فكرة أن المتلقي العربي قد شب عن الطوق وأصبح قادراً على تحديد مسارات بوصلته في عالم يموج بفكرة التواطؤ عليه.
لا أحسب أن الفكرة الاساسية لهذا الطرح تنطلق من تحت عباءة النوايا الحسنة كما تشير الكلمات التي سطرها أحدهم في جريدة محلية طارحاً نفسه مدافعاً شهماً عن حرية التلقي، منتقداً منهج الكشف والتعرية والتحليل للخطاب الإعلامي العربي، معتبراً كل محاولة لتفنيد مكونات هذا الخطاب ومواجهة الاسفاف الصادر منه والتنبية لخطر الأطروحات، وصاية أبوية وقهراً فكرياً. هذا الطرح كان من الممكن مناقشته والالتقاء معه في مفاصل مهمة عندما يكون هم كاتبه مرتبطاً أساساً بمصلحة المتلقي العربي الذي تكال له الضربات بمطارق الخوف والتجهيل والإغراء والتشويق.
الكاتب لا كسر قلمه ولا حرمنا علمه ولا افتقدنا رؤيته، يصنفنا وآخرين بأننا نحاول أن نطرح رؤية فيها الكثير من الوصاية على جمهور صار من حقه أن يخرج من تحت عباءة الوصاية كما يراها بعض الدخلاء. ليت الصحفي الذي منح مساحة وصوتاً يكون صادقاً في طرحه مؤمناً برسالته لا مدافعاً عن مؤسسته وعن أصحاب رؤس الاموال فيها.
عندما اقترح أحدهم ومن باب الغيرة والدفاع عن الشباب وحماية أخلاق المجتمع توجيه رسالة للقنوات الغنائية أن تتوقف عن بث تلكم الرسائل الملغومة بالطيش وقلة الحياء والذوق والعهر، لم يكن يطرح نفسه وصياً أو مصلحاً اجتماعياً بقدر ما كان ينظر إلى الموضوع من وجهة نظر أب ومربٍّ عز عليه أن يستغفل الأبناء وأن تقاد البنات إلى مكعبات الرقص والغناء والاستعراض المخل بالأدب، وأن يستغفل الكبار بأحاديث الحواة والمشعوذين وبائعي الوهم واللحم الابيض على مشهد فضائحي مسكون بالشبق والجنس.
أفهم كثيراً وجهة نظر البعض بأن دعوة مراقبة ما يبث أو على الأقل تقنينه ربما تكون مدخلا يمكن أن تستثمره الجماعات ذات الأطروحات المتطرفة والتي تدعو إلى تكفير المجتمع ونشر الحزن في جنباته وقتل كل ما هو مفرح ومبهج، تحت مبررات واهية يتم ربطها بالدين وسوق الناس الى متاهات التكفير والقتل والدم ووأد المرأة وتكفينها وهي حية ترزق.

أتعاطف كثيراً مع هذه الأطروحات. ولكن المخرج الحقيقي لأزمة الفكر هذه والتي ابتدعتها بعض الحكومات العربية بالاتفاق، إن لم نقل بالتواطؤ وسبق الإصرار مع مروجي فكر الإسلام السياسي، أن بعض الانظمة العربية ومن خلال تحالفاتها مع هذه التيارات التي غدت متطرفة ودموية ومتهورة منحت الفرصة الكاملة لفكر ظلامي حاقد للانقضاض، على كل منجز إنساني، إبداعاً وذوقاً وابتكاراً. ولم ينتج هذا التحالف المشوه الذي ركبت موجته بعض القيادات السياسية في الوطن العربي إلا سلسلة من التدمير في الروح العربية وموجة من أعمال القتل والارهاب وخريطة من الدم والاشلاء في كل بيت عربي تقريباً.

لا نريد أن نبحر كثيراً في مجاهل هذه التحالفات التي كانت تحقق مصالح الطرف المتطرف أكثر من تحقيقها لمصالح الوطن وحماية المكتسبات. ويكفي أن يكون العرب الأفغان مثالا لما آلت اليه الأمور، وتكفينا صرخات الامهات المكلومات والزوجات الأرامل وطوابير الأيتام لنعرف نتائج هذه التحالفات التي زين البعض أهمية عقدها للقضاء على أي فكر تنويري. تحالفات اعتقدت بعض الحكومات أنها ستساعدها على وأد الرأي الآخر، وإسكاته تحت مقصلة التيارات الدينية التي استولت على الميكروفون والشاشة، ووزعت مليارات الأشرطة على الأرصفة وفي مدن الصفيح وأكواخ القش. مليارات من الأشرطة ومليارات من دعوات التكفير وتوجيهات القتل.

صور مرعبة لصورة الحياة في المجتمعات الجديدة المزمع إقامتها على أنقاض ما هو قائم فعلا. إن المساحة لا تتسع للتفصيل وسرد القصص ورواية مقاطع من بروتوكولات التحالفات التي قامت بين طرفين نقيضين لغرض تهديد وشل حركة فكر ناهض يحاول أن يرسم خطاً فاصلا بين القهر وحقوق الإنسان، بين الفقر والحياة الحرة الكريمة. تحالف لا يمكن وصفه إلا بأنه محاولة نفعية جرت وبالا على الأنظمة والوطن والناس البسطاء بينما كانت تعربد خناجر الحقد وسواطير الانتقام والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، في الأزقة ومراكز التسوق وخلف المساجد وداخل الكنائس. هناك، تنتشر رائحة الموت ويعلو العويل في لحظة كانت تقف فيها بعض الانظمة العربية ورموز التيارات المتطرفة للتفرج بكل فرح سادي ولوثة عقلية على مشهد الدم والصور الفوتوغرافية للموت. ولم تفق بعض الأنظمة من غفلة ركوب موجة الهجرة إلى التيارات المتطرفة ودعمها بالمال وفتح كل المنابر لها إلا بعد أن شعرت أن كراسيها وعروشها باتت مهددة، وأن الأمواج المتلاطمة بدأت تتجمع لتشكل موجة عاتية عارمة ربما تطيح بالقصر ومن فيه. وأن سحباً سوداء تتكثف في سماء العلاقات لتنذر بمطر حمضي يحرقها. ولكن الساعة قد دقت، وقطار الارهاب قرر الانطلاق بعد أن غلى مرجله تحت حطب الرغبة في الانتقام من الفكر وأهله وانطلق السهم سريعاً لينغرس في الحنجرة التي لم تتوقف يوماً عن الترويج للفكر الظلامي ومنحه المساحة الممتدة فوق جسد الوطن، ومهج الشرفاء. وللمزيد من الغصة، أحيلكم لمشاهدة صور جز الرقاب في الجزائر بسواطير الحقد، وأنهار الدم في الرياض وصرخات الموت في أم الهيمان واللحم المحروق في الحافلات في شوارع القاهرة، ناهيك عن الموت المرسوم على الأرصفة في بغداد وصنعاء وغيرها.

إذا كان مبرر الصحفي أن الوصاية كما يسميها ستكون سلاحاً تستله الجماعات الدينية المتطرفة لقتل الفرح ونحر الابتسامة، فإن الحقيقة التي غابت عن ذهن بعض المدعين المدافعين عن الحرية، تقول إن المهم في العملية هو قدرة الأنظمة العربية على توفير مساحات من حرية التعبير وعدم استخدام الإعلام لتحقيق أغراض سياسية بحته على حساب هذا الإنسان المقهور.

وما أشبه اليوم بالبارحة. وما أشبه تحالف السلطات مع التيارات المتطرفة المتسربلة بعباءة الدين والنقاء والطهر لتمرير المشاريع الحكومية الخاصة بمصادرة الحريات وقمع الفكر المضاد. ما أشبه ذلك التحالف بهذا التحالف الجديد الذي يهدف لإفساد الذوق وإشاعة الانحلال والترويج لحياة الابتذال.

هو تحالف اختلف فيه طرف واحد وتم استبداله. فبدلا من أن يكون متسربلا بعباءة الدين، مبشراً بالموت، غدا خالعاً لرداء الفضيلة، مبشراً بالانحلال، مروجاً للرذيلة. وأخشى ما أخشاه أن نشاهد الفيلم مرة أخرى، ولكن مشاهده لن تكون حمامات الدم، بل مشاهد لسقوط أخلاقي مريع لمجتمعات سيدفع الأبناء فيها ضريبة هذا الانحلال الذي يروج له أمثال هذا الصحفي.

وأخيراً نقول لسنا أوصياء ولكننا من بعض الأوفياء... ولنا ولكم العزاء.