بغداد من‏: محمد الأنور: أيام قليلة وتبدأ أول انتخابات يشهدها العراق منذ أكثر من خمسة عقود‏(1953)‏ ومن المؤكد أن أي انتخابات في المنطقة لم تشهد هذا الاهتمام الإعلامي من قبل وسائل الإعلام العالمية والإقليمية مثل ما شهدته هذه الانتخابات‏,‏ ورغم أن الحدث الانتخابي يستحق الاهتمام في حد ذاته إلا أنه في الحالة العراقية يتميز بخصوصية وتفرد غير مسبوق في تاريخ أي انتخابات علي وجه البسيطة.
فالانتخابات العراقية والتي ستجري يوم‏30‏ يناير الجاري جاءت بقرار دولي وفي إطار عملية ادارتها وتديرها الولايات المتحدة دون النظر إلي أي اعتبارات أخري بمن فيها أصحاب القضية والأصوات أنفسهم وهم العراقيون والواقع المأساوي الذي يعيشونه بعد أن تأكد الجميع أن التحرير الأمريكي لهم من نظام صدام حسين‏.‏ كما أعلنت واشنطن أخيرا هو احتلال غاشم‏,‏
يعاني من التخبط في ظل انفلات أمني لا يدفع ثمنه إلا البسطاء من أبناء بلاد النهرين وتحولت الانتخابات من وسيلة لتحقيق الاستقرار والوحدة بين العراقيين إلي هدف في حد ذاته وتحد يجب علي‏(‏ القوات‏)‏ الأمريكية تحقيقه ومعركة يجب علي العناصر المسلحة خوضها وتخريبها ومن هنا وفي ظل واقع يصعب علي أي محلل توصيفه تجري الاستعدادات علي قدم وساق من الجانبين كل بوسائله وطرقه في العاصمة بغداد فمظاهر العملية الانتخابية من دعاية وإعلانات انتخابية وبرامج حزبية وصور المرشحين تنتشر هنا وهناك وأصوات التفجيرات واشلاء الضحايا والطلقات النارية في كل مكان‏.‏
هذا مع انتشار كثيف لقوات الاحتلال الأمريكي‏,‏ والحرس الوطني العراقي وتجهيز‏(‏ للصناديق‏)‏ الانتخابية وغير الانتخابية في آن واحد وإذا كانت الحكومة العراقية المؤقتة صرفت حتي الآن ـ كما هو معلن ـ مايقرب من الـ‏200‏ مليون دولار علي الحملات الإعلانية للانتخابات فإن هناك أيضا ما بين‏500‏ إلي‏600‏ شخص قتلوا خلال أقل من شهر كما هو معلن أيضا‏.‏ إما في التفجيرات المحيرة‏.‏ وأما بالنيران الأمريكية المحررة‏.‏

الدائرة المغلقة‏!‏
أمام هذه الأوضاع واستمرار الممارسات الأمريكية في الفلوجة والموصل وغيرها من المدن العراقية كانت المطالبة بتأجيل الانتخابات من داخل العراق وخارجه‏,‏ ولكن مع الإصرار علي أن تتم في موعدها رفضت أي طلبات لوضع إطار زمني لانسحاب القوات الأمريكية إلي خارج العراق أو إلي خارج المدن والقري ووقف العمليات العسكرية‏,‏ وطالبت العديد من القوي السياسية بالتأجيل‏,‏ ولما رفض طلبها انسحبت بعضها استمرت الأخري في العملية‏,‏
ورغم تذرع الكثيرين بالسقف الزمني الذي حدده قانون إدارة الدولة الانتقالي لإجراء الانتخابات الآن القوي المقاطعة لا تري في التأجيل‏6‏ أشهر أو‏3‏ أشهر انتهاكا للقانون بل حرص علي تهيئة الأجواء لانتخابات يشارك فيها الجميع وهوما دعا الحزب الإسلامي العراقي إلي الانسحاب والمقاطعة رغم أنه كان يمثل التيار الديني السني‏,‏ وشارك في العملية السياسية بالشروط الأمريكية من خلال التوقيع علي قانون إدارة الدولة والمشاركة في مجلس الحكم‏,‏
ورغم ما يثيره البعض خارج العراق وداخله أيضا عن عدم مشاركة السنة العرب في الانتخابات ومقاطعتهم لها بسبب العمليات ضد الفلوجة وغيرها من المدن العربية السنية إلا أن استعراض الهيئات والتيارات والاحزاب يؤكد أن المقاطعة ليست سنية عربية فقط بل تشمل عناصر من جميع أطياف الشعب العراقي بجانب هيئة علماء المسلمين جامعة الإمام الخالصي‏,‏ جمعية الزهراء النسوية‏,‏ الرابطة الإسلامية لطلاب العلم الشرعي بالبصرة‏,‏ مجلس أهالي المدائن‏,‏
مكتب آية الله أحمد الحسني البغدادي‏,‏ مكتب آية الله محمود الحسني‏,‏ مكتب آية الله قاسم الطائي‏,‏ حركة التيار القومي العربي‏,‏ رابطة العشائر العراقية‏,‏ المجلس المركزي لشيوخ العشائر العربية والعراقية‏,‏ حزب الإصلاح الديمقراطي‏,‏ رابطة عشائر مدينة الصدر‏,‏ الحركة الوطنية الموحدة‏,‏ رابطة خدمة الجوادين في الكاظمية‏,‏ الجبهة التركمانية العراقية‏,‏ اتحاد نقابات العمال‏,‏ الحزب المسيحي الديمقراطي‏,‏ منظمة طلبة وشباب العراق‏,‏ الكتلة الإسلامية في العراق‏,‏ حزب العدالة والإخاء‏,‏ اتحاد الحقوقيين العراقيين‏,‏ التجمع الوطني المستقل‏,‏ اللجنة العليا لحقوق الإنسان‏,‏ هيئة الرأي لعشائر أبو غريب جمعية المرأة العراقية‏,‏ الحزب القومي الديمقراطي هذا بجانب التيار الصدري والكثير من العشائر العراقية في جنوب العراق ووسطه وشماله شيعية كانت أم سنية‏.‏
مع هذه المقاطعة التي في تزايد مستمر يتساءل الجميع هل الانتخابات يمكن أن تؤدي إلي استقرار ووفاق وطني ويكون السؤال منطقيا في حالة الظروف العادية فكيف هو الوضع في ظل مايحدث وغياب الأمن والأمان وما يحمله من اجبار حتي المؤيدين للانتخابات عن عدم الخروج من منازلهم للمشاركة‏,‏ وهو الأمر الذي يدفع الكثيرين إلي تأكيد أنه حتي لو أجريت الانتخابات‏,‏ فلن يقبلوا بها أو بما ستتخذه وعلي رأسه الدستور الدائم للعراق ليصبح الجميع أمام دائرة مغلقة من عدم الاستقرار سياسيا دوستوريا كان أم أمنيا‏.‏

علامات استفهام
كما هو معروف فإن الانتخابات ليست علي مستوي اختيار‏270‏ عضوا للمجلس الوطني‏(‏ البرلمان‏)‏ بل لاختيار أعضاء المجالس البلدية في مختلف الأنحاء العراقية إضافة إلي انتخاب أعضاء البرلمان الكردستاني بمعني أوضح انتخابات ثلاثية الأبعاد‏,‏ وإذا كان الأمر محسوما ومستقرا في كردستان العراق لمصلحة الحزبين الكرديين الرئيسيين‏(‏ الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب والديمقراطي الكردستاني‏)‏ والجميع يعرف تاريخهما وتجربتهما فإن الأوضاع في الوسط والجنوب غير محسوبة وتحتوي علي علامات استفهام وتعجب أحيانا حول هذا الحزب أو ذاك‏.‏
وباستثناء قوائم معدودة تمثل احزابا وشخصيات معروفة‏.‏ أما من قبل‏9‏ ابريل أو من توابعه تخلو الساحة من أي معالم يمكن أن تضع خريطة واضحة لعشرات الاحزاب ومئات الشخصيات التي تقدمت إلي الانتخابات عمرها الزمني‏(‏ وليس السياسي‏)‏ أقل من عام وأشهر معدودة‏,‏ ولا يمنع ذلك من وجود شخصيات مستقلة دخلت للانتخابات ليس اعترافا بها بل هو قبول بقواعد فقط وليس استسلاما لها كما يقول إبراهيم البصري الطبيب المعروف في بغداد الذي أكد أنه لابديل بالنسبة له سوي المشاركة رغم قناعته بما تحفل به الساحة من تناقض‏,‏ وقال‏:‏ إذا كانت‏,‏ هذه شروطهم فسنقبل بأسلوبهم وسنحاربهم بنفس الأسلوب وليس الهرب والمقاطعة وإذا ما وجدنا أنهم لايقبلون بما سنقوله ونتخذه مستقبلا عندها سنقول لا وننسحب‏,‏ ولا ينطبق الأمر علي البقية الباقية من المرشحين سواء من ناحية الفكر أو القناعات‏,‏ وحسبما قال أحد المرشحين علي رأس إحدي القوائم أنه تقدم بقائمته التي تضم أقرباءه وأصدقاءه في إحدي المحافظات الجنوبية‏,‏
وقال إنها فرصة له للفوز رغم أنه لا يحب السياسة ويفضل تجارة الأخشاب التي يعمل بها منذ عقود إلا أن نصيحة أحد أصدقائه كانت وراء تشكيل القائمة التي توقع أن ينجح‏5‏ من أعضائها علي الأقل‏,‏ وبلاشك فإن هناك قوي سياسية وقوائم انتخابية ستكون هي الفاعلة في الانتخابات ان اجريت وعلي رأسها قائمة إياد علاوي رئيس الوزراء الحالي‏,‏ والتي تضم‏8‏ وزراء حاليين وتحمل رقم‏285‏ أما القائمة الثانية فهي الائتلاف العراقي الموحد‏(169)‏ والتي تضم حزب الدعوة‏(‏ إبراهيم الجعفري‏)‏ المؤتمر الوطني العراقي‏(‏ أحمد الجلبي‏)‏ المجلس الأعلي للثورة الإسلامية‏(‏ عبدالعزيز الحكيم‏)‏ وغيرهم ممن يشكلون قائمة البيت الشيعي إضافة إلي قائمة الحزب الشيوعي‏(‏ حميد مجيد موسي‏)(324)‏ قائمة الديمقراطيين المستقلين‏(‏ عدنان الباجه جي‏),‏
قائمة الملكية الدستورية‏(‏ علي بن الحسين ـ‏349),‏ قائمة‏(‏ د‏)‏ عراقيون التي شكلها الرئيس العراقي غازي الياور وحازم الشعلان وزير الدفاع‏,‏ هناك قناعة لدي الجميع بأن الحكومة الجديدة لن تخرج من بين أعضاء هذه القوائم ولا يمنع ذلك من استخدام كل قائمة لجميع الوسائل لاجتذاب أصوات الناخبين خاصة الشيعة البسطاء من خلال التأكيد بدعم المرجعية الشيعية العليا السيد علي السيستاني لقائمة الائتلاف العراقي الموحد الأمر الذي آثار قائمة علاوي اشعل الأجواء بينها وبين قائمة الائتلاف رغم نفي الجعفري لدعم المرجعية لأي قائمة بما فيها قائمته‏,‏ ولا تخلو القوائم المقدمة للانتخابات من قوائم وشخصيات معروفة بولائها لإيران التي أصبح وجودها قويا علي الساحة الانتخابية‏.‏ ورغم الحشد الكثيف من قبل القوي المشاركة لانصارها إلا أن هناك شكاوي من عدم وجود اسماء الناخبين في كشوف الانتخابات‏,‏ بل وعمليات التزوير في تسجيل الناخبين في ظل سهولة الحصول علي أي شئ بالمال من أسواق التزوير وأوكارها التي انتشرت بانهيار الدولة‏,‏ بحيث أصبح من السهل جدا الحصول علي هوية وبطاقة سكن وجواز سفر عراقي وبطاقة تموينية بما لا يتجاوز‏250‏ دولارا مع ضمان تام بأنها لن تكتشف‏.‏

الناخب أخيرا‏!‏
في ظل هذه الاجواء يبقي المواطن العراقي الذي من المفترض أن يتوجه صبيحة يوم‏30‏ يناير وسط إجراءات أمنية مشدددة للإدلاء وبصوته محاطا بتهديد دائم ومستمر بالقتل العمد من الجماعات المسلحة وربما القتل الخطأ من قبل المسئولين عن أمنه‏,‏ ولا يمثل الأمر عبئا في شمال العراق وجنوبه حيث من المتوقع أن تمضي العملية الانتخابية بسهولة ويسر‏.‏ أما في بغداد فالأمر مختلف‏,‏ وبعيدا عن الانتخابات التي لا تشكل إلا عبئا أمنيا علي مواطني بغداد يجد البغداديون أنفسهم غارقين إلي الاذقان بكم هائل من الأزمات بدأ بالارتفاع الهائل في أسعار النفط ومشتقاته‏(‏ بلغ سعر الـ‏20‏ لتر بنزين‏20‏ ألف دينار‏)‏ في بلد نفطي‏,‏ مرورا بقطاع الكهرباء والمياه والهواتف بسبب تهالكها وتعرضها للهجمات انتهاء بالأمن المفقود رغم الانتشار الكثيف لقوات الحرس الوطني التي تستغل الأزمات لتحقيق أرباح في تجارة البنزين وأحيانا السرقة وهو الأمر الذي دفع وزير الداخلية فلاح النقيب إلي التأكيد علي أن عناصر سيئة تعمل في جهاز الشرطة وأنه جار العمل علي تطهيره منها‏,‏
نعود إلي الوطن المنتهب ومعاناته التي لخصها علي الحسيني بالقول‏(‏ أمريكا جاءت بالصواريخ والطائرات والدبابات إلي العراق الا تستطيع توفير الكهرباء والماء والأمن لنا قبل الانتخابات‏,‏ لا اعتقد أن أحدا من العراقيين سيغامر ويخرج في هذا اليوم في مناطق معروفة بالتشدد ضد الحكومة والاحتلال‏)‏ ويؤكد عباس حسن وهو من سكان مدينة الصدر ـ الثور ـ أنه سيدلي بصوته في الانتخابات رغم مخاطره إلا أنه استدرك قائلا المركز الانتخابي بجوار المنزل ولن تكون هناك سيارة الثورة آمنة مقارنة بالمناطق الأخري وسأنتخب جماعتنا وان كنت لا أعرف لمن سيكون الاختيار‏,‏ ويشير صالح بهاء الدين إلي العملية بالقول إنها مفبركة أي انتخابات في ظل الاحتلال والفوضي والقتل العشوائي ويقول إنه كان مهندسا في هيئة التصنيع العسكري ومازال عاطلا عن العمل هو وثلاثة من زملائه‏,‏ ويضيف هناك من يطلب التأجيل للانتخابات ومن هو مع إجرائها في موعدها‏,‏ ولكن هل الطرفين لديهما حل لمشاكلنا أنا أتحدي الطرفين أن يحلا أي مشكلة‏.‏
ورغم الخطط الأمنية الطارئة في هذا الوضع الأمني المتدهور إلا أن هناك قناعات وتوقعات بشأن عملية التصويت ونسبته في مناطق بغداد فهي يمكن أن تصل إلي الصفر في الأعظمية والغزالية والمنصور والدورة ومنطقة الشيخ معروف وتبلغ‏80%‏ أو أكثر في الكاظمية والصدر والكرادة والشعلة‏.‏ أما البقية الباقية فتراوح صعودا وهبوطا حسب التوزيع السكاني لانصار هذا التيار أو ذاك‏.‏ والنقطة التي تثير خوف العراقيين أكثر من غيرها هي أن الانتخابات وسيرها ومشاركة البعض فيها يمكن أن تكون شرارة لتولد أعمال عنف داخل الأحياء المنقسمة حيالها بل الخوف أكبر من نشوء أعمال عنف بين القوي المشاركة فيها أنفسهم خاصة أن نسبة لا يمكن تجاهلها منهم لديها قوات مسلحة وهناك إمكان لاحتمال أن تتحول المراكز الانتخابية إلي ساحة معارك لتصفية الحسابات بين المشاركين لأن كل طرف سيحشد قواه التصويتية وقواته العسكرية‏,‏ لذلك فإن الكثيرين غادروا بغداد هربا مما قد تحمله الأيام التي تسبق‏30‏ يناير والأيام التي تلي من هذا اليوم الذي يسمونه أطول وأصعب يوم في التاريخ‏!‏