حاول كل من الرئيس بوش في خطاب إعادة تتويجه رئيساً “إمبراطورياً” للولايات المتحدة، والدكتورة كوندوليسا رايس في شهادتها أمام لجنة الكونجرس، الالتفاف حول مأزق أمريكا في العراق، سرح أحدهما في فضاء التبشير بالدين والقيم والرسالة الأمريكية التي كلفته بها “قوى من وراء النجوم”، وركزت رايس على أسبقية الدور الدبلوماسي في السياسة الخارجية الأمريكية خلال السنوات الأربع القادمة، وللاثنين عذرهما، فقد بات صارخاً الانقسام الكبير داخل المجتمع الأمريكي حول الحملة العراقية، خاصة بعد أن بدأ الإعلام الأمريكي يكفر عن تواطئه مع الإدارة الأمريكية، ويكشف عن خلل شديد في إدارة الحملة العسكرية وفشل أشد في عملية إعادة البناء بعد النجاح البارز في عملية تدمير العراق طبقاً لخطة الحرب التي وضعها الفريق المدني في وزارة الدفاع الأمريكية.
صارت قطاعات أوسع في الرأي العام الأمريكي تنتبه إلى أن الجانب الأكبر من عمليات العنف التي يمارسها عراقيون هي عمليات مقاومة، إذ حين يسقط أكثر من 1200 جندي وضابط أمريكي قتلى وألوف من الجرحى، يصعب الادعاء بأنهم سقطوا على أيدي إرهابيين ولم يعد ممكناً، ولا مقبولاً، الزعم بأن كل ما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان ضد قوات الاحتلال والمتعاملين معه هو من صنع الإرهاب، بعضه، وقد يكون أكثره، إرهاباً، ولكن بعضه بالتأكيد مقاومة مسلحة ضد احتلال عسكري، أو هكذا يفهمه الناس في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي أنحاء شتى من العالم العربي.
إن استمرار هذه المقاومة، رغم القوة العسكرية الفائقة للاحتلال، يعني أحد أمرين؛ إما أن هذه الشعوب مسلوبة الإرادة تماماً، وسلبية تجاه هذه الأعمال المناوئة للاحتلال، أو أن هذه الشعوب صارت تكن للسياسة الأمريكية وقواتها كراهية، ربما أشد قليلاً من كراهية شعوب أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، ولا يخفي إعلاميون ومحللون أمريكيون تفهمهم لقضية الزيادة في كراهية العراقيين بعد سنوات طوال من الحصار الأمريكي البريطاني لبلادهم جاعوا فيها وتشردوا أو تشتتوا على أرضهم وخارجها.
كتبت أقلام في المعارضة الأمريكية ضد الحملة العراقية تشرح للرأي العام الأمريكي، ومنه لبقية العالم ونحن جزء منه، أن الظروف في العراق تختلف عن الظروف التي كانت قائمة عندما قامت القوات الأمريكية بغزو العراق، لا يوجد في العراق الآن دكتاتور مستبد وعنيد، أما حزب البعث فقد تبعثر بعد حله، والجيش وفي صدارته الحرس الجمهوري، انحل بقرار تندم واشنطن أنها وافقت على اتخاذه، في البدء كانت الخطة تقضي بالهدم على أن تبدأ إعادة البناء بعد أن تتغير طبيعة العراق وملامحه التي رسمها عدد من أكاديميين عرب اشتركوا في وضع خطة الحملة، ويتضح الآن أنهم زيفوا الطبيعة وشوهوا الملامح، فدفعت أمريكا بسبب أخطاء أو سوء نوايا هذه الحفنة ثمناً باهظاً، وستدفع أكثر إذا استمروا في خدمتها، ويبدو أنهم مستمرون طالما أن وولفويتز، هذا “الخطأ السائر على قدمين” حسب تعبير الكاتبة مورين دود، باق في وظيفته باعتباره الشريك الأهم في وضع الخطة وتنفيذها، يتابع بعضنا باستغراب جهود آلة الاحتلال الأمريكي “تفعيل” القيادات الدينية في مجتمع عاش معظم القرن العشرين يفاخر الأتراك بعلمانيته، وقد عبر في استغرابه أكثر من أستاذ أمريكي للتناقض المذهل الذي تمارسه قيادة الاحتلال في محاولتها استخدام المرجعيات الدينية للتهدئة أو الإثارة حسبما احتاج الموقف، ومحاولتها في الوقت نفسه التأكيد للنخبة العراقية العائدة من المهاجر مع دبابات الاحتلال أو من ورائها بأن الدستور القادم للعراق سيكون علمانياً كالدستور الأمريكي وغيره من دساتير الديمقراطيات الغربية، وقد سمعت مؤخراً أن أستاذاً مشهوراً في إحدى الجامعات الأمريكية الكبرى يدرس لطلبة الدراسات العليا في العلوم السياسية مادة “مناهج إدارة الدين لخدمة السياسة” استناداً إلى تجربة العراق في ظل حكومة الاحتلال.
ويشككون مقدماً في شرعية أي حكومة تتولى إدارة شؤون العراق سواء جاءت نتيجة الانتخابات أو نتيجة “وصفة” تجمع بين نتائج الانتخابات وإرادة الاحتلال، ناهيك عن تحذير سكروكروفت مستشار بوش الأب من أن الانتخابات أياً كانت نتيجتها ستؤدي إلى تفاقم الصراع لأنها ترفع وتيرة التوتر في البلاد، فالمأزق في العراق ليس ناتجاً عن وجود حكومة مفروضة لينتهي بوجود حكومة منتخبة، المأزق في العراق ناشئ عن وجود الاحتلال، ولذلك ينصح سكروكروفت بوش بأن يترك العراق لحلف الأطلسي أو للأمم المتحدة قبل أن يتسبب لأمريكا في أذى أشد، وذهب أكثر من محلل غربي إلى التنبؤ بأنه ما لم تحصل الحكومة، منتخبة كانت أم مفروضة، على جدول زمني من الاحتلال بالانسحاب، وما لم تعد بأنها ستتولى “عرقنة” كافة المؤسسات والتشريعات التي أقامتها أو وضعتها إدارة الاحتلال، وتتوطن “الديمقراطية”، ستبقى الحكومة غير ممثلة للعراق وتستمر الفوضى ويبقى العراق نموذجاً طويل المدى للفشل في إقامة بديل ناجح لحكومة مستبدة عربية أو إسلامية أسقطتها أمريكا لرفضها التحول إلى الديمقراطية. العراق على هذا النحو لن يكون حافزاً لشعوب المنطقة لتتحمس لمشروعات أمريكا في الإصلاح الديمقراطي، ويدرك المسؤولون الأمريكيون خطورة امتزاج عواقب هذا الفشل باستمرار مأزقهم في العراق، إلى حد أن أحدهم يتوقع أن يصبح العراق مركزاً للإرهاب بعد خمسة عشر عاماً، ويقول زبينو بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر، “إن أقصى ما يمكن أن نأمل فيه هو “ثيوقراطية يسيطر عليها الشيعة وليس ديمقراطية جيفرسونيه”. إن ما يبدأ بالكذب نادراً ما ينتهي نهاية جيدة”.
قد يكون سابقاً لأوانه حصر عواقب الحملة الأمريكية سواء في داخل أمريكا أم في خارجها، ولكن ليس من المبالغة الشديدة الحكم بأن نتائج عامين من الحملة العراقية تكاد تعادل في خطورتها نتائج أعوام أكثر من الحملة الفيتنامية، لقد محت الحملة العراقية في هذين العامين محاولات دامت أكثر من ثلاثين عاماً قامت بها النخبة الحاكمة الأمريكية لمحو الآثار السلبية للحملة الفيتنامية، ومنها الأثر الذي خلفته على كفاءة القوات المسلحة وسمعتها بسبب هزيمتها ووحشيتها في التعامل مع الشعب والمقاومة الفيتنامية، ومنها أيضاً الانشقاق الداخلي وتصدع الوحدة الوطنية وانهيار الروح المعنوية وصحوة ثقافية بديلة وتوجه جديد نحو اليسار أخذ في حينه شكل “دروشة” أيديولوجية بين قطاع كبير من الشباب وطلبة الجامعات.
نشهد الآن عودة إلى التجنيد الإجباري وعسكرة قطاعات مهمة في المجتمع وسيطرة ثقافة الخوف وهيمنة الذهنية الأمنية وتفاقم العجز في موازنة الدولة. وللمفارقة نشهد في الوقت نفسه ما هو أكثر من الاستغراق في الدين، نشهد شيئاً قريباً من “الدروشة الدينية”، في مقابل “الدروشة الأيديولوجية” التي صاحبت حرب فيتنام، نشهد أيضاً زحفاً “طائفياً متعصباً” يقوده قطاع أساسي في النخبة الحاكمة الأمريكية، وتزداد جماهيره مع كل خطاب جديد للرئيس الأمريكي، وتتردد أصداؤه في كافة أنحاء العالم ممزوجة بالخوف أحياناً والغضب أحياناً أخرى.
يقول جيمس شول، أحد كبار الباحثين في معهد هدسون، اليميني التوجه، “لقد ارتكبت إدارة الرئيس بوش خطأ فادحاً حين أخفت عن العالم وعن الأمريكيين أن حربها ضد العراق حرب ضد إسلام يتوسع”. ومن ناحيتي أعتقد أنه حتى لو أن شول قد عبر بهذه العبارة عما يجيش في أذهان الكثيرين، وأنه ربما يكون على حق، إلا أن الظروف المتغيرة ربما فرضت على الإدارة الأمريكية تغيير هذا الهدف، وهي تحاول الآن في كل مناسبة تحسين صورتها لدى المسلمين، وكان كولين باول وكوندوليزا رايس والرئيس بوش بنفسه آخر من حاولوا في الظاهر التودد إلى الإسلام والمسلمين، ولكن بتمييز واضح بين الشعوب ودينها وبين كثير من الحكومات الإسلامية التي يتهمونها بالطغيان، هذا العدو الجديد الذي قال عنه بوش في خطاب تتويجه إن استمراره يهدد الأمن القومي الأمريكي.
المأزق الأمريكي في العراق يتفاقم، ولن ينفع معه تودد أو مداهنة، فما بدأ بالكذب، كما قال بريجنسكي، نادراً ما يصل إلى نهاية جيدة.