لقاء الرئيس مبارك مع المثقفين ورجال الفكر في هذا العام اختلف عن الاجتماعات السابقة في انه ركز على استكشاف آراء الحاضرين، وربما بالذات المختلفين في الرأي منهم، أكثر من طرحه قضايا حال أو جديدة.
قلت: “لا اشعر بأنني مؤهل للمشاركة في الحوار، لأنني لم اسمع شيئا بسبب قصوري في السمع.. واعتقد أن هذا ينسحب أيضا على غيري من الحاضرين!.. وان كان هناك ما بوسعي أن أدلي به، فلقد شد انتباهي أن ثمة تباينا واضحا بين الروح التي جرى بها تبادل الآراء، وصورة هذا التبادل كما تعكسها مناقشات صاخبة في كثير من إعلامنا وصحفنا”، وقد طالبت بأن يكون هناك جهد وبذل للتقريب بين الصورتين.. وابتكار الآليات الكفيلة بتحقيق هذا التقريب.. أفهم أن يكون هناك فارق بين رأي المفكر المعارض لرأي الحكومة ورأي المؤيد لها، ولكن لا افهم أن تكاد تختفي الآراء المخالفة في حضور شخص رئيس الجمهورية، حتى ظهرت هناك حاجة إلى أن يستطلع الرئيس بنفسه هذه الآراء.
فحتى الآن، لا يمكن لنا نقول إن هناك حوارا بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة. الحزب الوطني في واد، وأحزاب المعارضة في واد آخر.. وقد وقفت إجراءات الأمن حائلا دون إكساب الحوار بعدا جماهيريا، بمعنى إجرائه بمشاركة جماهيرية واسعة في ساحات عامة، وتساور أحزاب المعارضة الشك في أنها في الأساس مدعوة للالتحاق بوجهات نظر الحزب الحاكم، وليس الحوار لمعاملة المعارضة على انه طرف ند.
إن القضية الرئيسية في الظرف الراهن هي أن تكون هناك آلية للحوار، تخضع لها الأطراف المعنية جميعا.. وهنا يثور السؤال: هل النظام الذي طبق حتى الآن هو المناسب لبلوغ هذا الهدف؟.. من هم أطراف الحوار؟.. لقد اتخذت حتى الآن صوراً متنوعة، واتسمت بالعشوائية.. ولم تتخذ شكل اتصالات تتميز بالجدية، والمصداقية، والاستمرارية. كانت هناك اللقاءات الثنائية التي حضرها أمين الحزب الوطني، ثم كان هناك الاجتماع بمكتبة الإسكندرية في مارس الماضي الذي صدرت عنه قرارات.. غير أنها لم يكن له اثر في التطبيق.
بيد أن مثل هذه اللقاءات، حتى يكون لها تأثير، لابد ألا تتسم بصفة الفردية، بل أن تكون لها صفة حزبية وان تتسم بالعمل الجماعي، وان تتسع لتفاعلات ذات اثر يمتد إلى الحياة الداخلية للأطراف المتحاورة.. لا أن تتم علوياً على مستوى قادة الأحزاب فقط.. ليست “الجهة المرجع” هي الحزب الوطني وحده، وإنما جهة أخرى يتعين تحديد معالمها، لا هي الحزب الوطني فقط، ولا هي بالضرورة مجموعة الأحزاب التي تحظى بالشرعية بمقتضى أحكام صادرة من مجلس الشورى، أو أطراف تضاف إلى هؤلاء. ينبغي أن يصبح هذا كله مفتوحا، ووضع مراجعة شاملة تجريها جهة تأسيسية تتقرر لها ملامح. إننا بصدد نمط يتخذ صورة “الشبكة”، لا شكل “الخط المباشر بين نقطتين”، وبالتالي فلا تفضيل لطرف على طرف.. وهذا يطرح بدوره مركز رئيس الجمهورية.
أتصور رئيس الجمهورية فوق الأحزاب، وان يكون حَكَما (فتح الكاف) بين الأحزاب.. ولا يعمل من خلال حزب بعينه.. إن “حزب الحكومة” هو الحزب الذي يكتسب حق الحكم لأنه الحزب الذي يحظى بأغلبية الأصوات في البرلمان، وليس لأن خطا سياسيا بعينه مفضل على غيره من الخطوط.. وهكذا يكون للنظام الحزبي صفة متوازنة، وتتحقق لأحزاب المعارضة قواعد تكفل لها توازنا مع حقوق وصلاحيات الحزب الحاكم.
إن الأحزاب يتقرر الاعتراف بوجودها حسب مقاييس معينة: الجدية المصداقية دخول الانتخابات من ضرورات عمل الأحزاب السعي إلى بلوغ أغلبية في البرلمان.. إن نشاط الأحزاب يتركز كله على آلية الانتخابات.
ثم هناك محاربة الفساد، وان يكون حكم القضاء هو الفاصل في هذا المضمار. إن كلينتون تعرض لإدانة قاسية لا لأنه تصرف بشكل مخل للآداب، ولكن لأنه كذب!.. تصرف بطريقة منحرفة.. هذا قابل للتصحيح إذا كان هناك استعداد للاعتراف بالخطأ، وتصحيح المسار.. الأمر ذاته انسحب على فضيحة “ووترجيت” التي أطاحت بنيكسون.
إن الانتخاب هو أساس النظام الديمقراطي، هو التعبير الأمثل عن مصداقية المرشح والثقة فيه.. ومن هنا أهمية نزاهة النظام الانتخابي، وأهمية إسقاط أي اتهام بأن نتيجة الانتخابات قد زيفت وذلك بإتاحة الفرصة لمراقبين ذوي مصداقية من الخارج أن يبدوا رأيهم في هذا الصدد (على غرار ما حدث في الانتخابات الفلسطينية مثلا).. من الخصائص المميزة للديمقراطية، ألا يتقرر سلفا لشخص بعينه منصب معين، وإنما أن يتحدد هذا المنصب نتيجة انتخاب. ليست الهزيمة في انتخابات ديمقراطية هي أن يهزم مرشح أمام منافسه، وإنما أن يتخلى هذا المرشح عن إعادة ترشيح نفسه، وعدوله عن الاستمرار في المباراة.. إن العملية عملية متصلة، ولا تقتصر على جولة واحدة. الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، على سبيل المثال، اخفق في أكثر من مرة في أن ينتخب رئيسا للفرنسيين، لكنه في النهاية انتخب مرتين متتابعتين، واحتل مقعد الرئاسة لمدة 14 سنة.
إن كثيرا ما يقال إن “إسرائيل” دولة ديمقراطية، بل الدولة الوحيدة الديمقراطية حقا في الشرق الأوسط!.. ونتساءل: كيف تكون “إسرائيل” دولة ديمقراطية وهي تعامل قاطنيها من غير اليهود معاملة تختلف نوعيا عن معاملتها لمواطنيها اليهود، كمواطنين من الدرجة الثانية؟.. وكثيرا ما يقال إن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر دول العالم ديمقراطية.. ولكن كيف يقال ذلك، وقد أصبحت ممارساتها إزاء جالياتها العربية هي معاملة تعيد إلى الأذهان مكارثية السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، وشهدت حملات شرسة ضد كل من اتهم بممالأة للشيوعية!.. إن محاربة الشيوعية بالأمس أصبحت توصف بمعاداة الإرهاب اليوم بعد زوال النظام العالمي الثنائي القطبية، وحلول نظام أحادي القطبية محله.. إنني لا ازعم أن الديمقراطية مكتملة في بلداننا العربية، ولكن ليست هي الدول الوحيدة التي تنتهكها.. إن سجن “جوانتانامو”، أو سجن “أبو غريب” نماذج حية لحقيقة أن الديمقراطية من أكثر الأمور تعرضا للخرق في عالمنا المعاصر.. حتى من قبل الدول التي تتباهى بأنها تلتزم بالديمقراطية وتحرص على عدم انتهاكها.
والديمقراطية مع ذلك في نهاية الأمر هي تعبير عن موازين قوى. لا يتصور نظام ديمقراطي صحيح في ظل موازين قوى رجعية.. والعكس أيضا صحيح.. لا تملك قوى رجعية إغفال موازين القوى إذا تصاعدت لصالح حركة تقدمية.. مثلا، لم يستطع شارون أن يطبق تهديده بقطع كل علاقة مع السلطة الفلسطينية كما هدد بعد العملية التي أطلقتها ثلاث منظمات فدائية معا، والتي قتلت 6 جنود “إسرائيليين”، ولم يجد شارون من مفر غير أن يسلم بأن الإجراءات التي اتخذها أبو مازن ضد هذه المنظمات، وان كانت “محدودة”، فإنها “ايجابية”.
معنى ذلك انه لم يكن في استطاعة شارون تطبيق الاستراتيجية القائلة إن “أبو مازن” هو المسؤول قبل غيره عن العمليات العسكرية التي تقدم عليها المنظمات الفلسطينية المسلحة.. ذلك بينما يعمل أبو مازن من اجل وضع نهاية للعمليات الفدائية، ولكن بطريق الإقناع قبل العنف.. لقد أكد أبو مازن منذ البداية، ووافقته حماس على هذا الرأي، أن وقف إطلاق النار ينبغي أن يكون من الطرفين معا، وان مطالبة الجانب الفلسطيني وحده بذلك لابد أن تنتهي إلى تصعيد الصراع المسلح بدلا من تهدئته. فهل يبني شارون على موقفه هذا ما يفسد على المنظمات الفلسطينية المسلحة خطتها الرامية إلى إفساد وقف إطلاق النار، حتى إذا صح أن توجيه ضرباتها إلى جنود “إسرائيليين”، وليس إلى مدنيين، إنما هو ممارسة لعمليات مقاومة مشروعة ضد دولة محتلة؟
إن الأفعال وردود الأفعال بين الجانبين “الإسرائيلي” والفلسطيني عملية بالغة الدقة في المرحلة الراهنة.. والشيء المؤكد أن اعتبار شارون تحركات “أبو مازن” ايجابية، حتى ولو كانت “محدودة”، هو موقف سيصعب عليه العدول عنه كلية لو لم يحصل على كل ما يريده.. فماذا سوف يكون سلوكه؟