ما سنشهده آخر هذا الشهر حدث تاريخي يمكن ان ينقل العراق الى وضع افضل كما يمكن ان يؤدي به الى ما هو أسوأ مما كانت عليه الحال إبان حكم نظام صدام حسين، والمعني بالأسوأ الحروب الاهلية التي زرع الاحتلال الاميركي بذورها منذ اليوم الاول لسقوط النظام في 9 نيسان من العام 2003 حين اتخذ قراراً بحل الجيش الوطني ثم بتشكيل مجلس حكم موقت وزع على المذاهب والطوائف والأعراق والقوميات، والزم العمل بمبدأ يقول ان الشيعة يشكلون الأكثرية في حين لا يتجاوز عدد السنة العرب نسبة عشرين في المئة... في احسن الأحوال.
كان من الافضل ألا تجري الانتخابات ما دامت ستكرس واقعاً قد لا يكون حقيقياً لا لشيء سوى لأنه لا توجد جهة قادرة على القول بدقة كم هي النسبة الحقيقية للشيعة وكم نسبة السنة العرب وكم نسبة التركمان وكم نسبة الاقليات الاخرى، بمن في ذلك الذين ينتمون الى كنائس مسيحية عدة، باستثناء الاكراد الذين قد تكون لديهم احصاءات حقيقية لعدد سكان كردستان العراق، ليس في الإمكان اعطاء ارقام حقيقية عن النسب التي تعود لكل مذهب او طائفة او قومية او عرق. وعلى الرغم من انه لا بد من الاعتراف بأن شيعة العراق يمكن ان يشكلوا نسبة تزيد على النصف، الا ان فكرة اجراء انتخابات استنادا الى التوزيع المذهبي لا تؤسس لقيام دولة حديثة يتساوى فيها المواطنون الى اي مذهب او عرق او منطقة انتموا. على العكس من ذلك ان هذه الفكرة تؤسس لحروب اهلية ولن تكون لهذه الحروب انعكاسات على العراق فحسب، بل ستتأثر بها المنطقة كلها خصوصاً انه لا توجد دولة في الشرق الاوسط الا وفيها خليط من مذاهب واديان وقوميات.
ثمة اشارات مشجعة صدرت عن بغداد فحواها انه لن يكون هناك رجال دين في الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات، وهناك من يقول ان ايران ذهبت الى حد اعطاء نصيحة في هذا الاتجاه وذلك تفادياً لإعطاء انطباع بأن النظام الجديد في العراق سيؤسس لـ"جمهورية اسلامية" على النسق الايراني بما يؤكد المخاوف التي تجرأ الملك عبد الله الثاني وتحدث عنها بصراحة متناهية. لكن غياب رجال الدين عن الحكومة وعن المواقع البارزة في الدولة لا يلغي وجود محاولات جدية تبذلها طهران لتحويل العراق منطقة نفوذ ايرانية. ويمكن الاشارة في هذا المجال الى ان كثيرين من اللائحة الشيعية التي تحظى بدعم اية الله علي السيستاني يعتبرون محسوبين على طهران او قريبين جدا منها، وبين هؤلاء رأس اللائحة السيد عبد العزيز الحكيم والعالم النووي المهندس حسين شهرستاني وابرز قادة حزب "الدعوة" السيد ابراهيم الجعفري ووزير المال السيد عادل عبد المهدي وهو من "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية"، وعبد المهدي ينصح صراحة زملاءه في الحكومة كي تكون المشتريات من ايران وليس من غيرها. يضاف الى هؤلاء السيد احمد الجلبي الذي اتهمه الاميركيون الذين كان على علاقة وثيقة بهم بأنه يمرر معلومات سرية لإيران، علما بأنهم تعاطوا معه وهم يدركون من الاساس بأنه على علاقة بالاجهزة الايرانية.
اي عراق بعد الانتخابات؟ الاكيد انه عراق لا علاقة له بذلك الذي عرفناه، واذا كان من امل فان هذا الامل يكمن في عدم السقوط في فخ حكم ما يسمى الاكثرية المذهبية. فاذا كان مطلوبا ان يكون رئيس الحكومة التي ستنبثق من المجلس الوطني شيعياً، لماذا لا يكون الدكتور إياد علاوي او شخص من هذا العيار لا يمكن اعتباره محسوبا على مذهب معين او بلد معين، بل على العراق ولا شيء غير العراق.
اذا لم يحصل ذلك، واستطاعت ما يسمى اللائحة الشيعية السيطرة على المجلس الوطني الجديد وتشكيل حكومة، تكون الولايات المتحدة مجرد مقاول لدى الايرانيين، وستكون نفذت لهم في العراق ما لم يتمكنوا من تنفيذه منذ العام 1979 تاريخ قلب شاه ايران. في هذه الحال وفي غياب ثقل السنة العرب الذين صاروا ارهابيين والتيارات الشيعية العربية، لن يكون هناك من يتكل عليه سوى الأكراد بغية المحافظة على ما بقي من عروبة العراق. فالأكراد لديهم مصلحة في عراق مستقل وحضاري وديموقراطي بعيدا عن هيمنة هذا الطرف الاقليمي او ذاك، انه بلد يمكن ان تؤدي انتخاباته الى اعادة بنائه مجدداً أو الى تفكيكه مع كل ما يعنيه ذلك من انعكاسات على كل دول الشرق الأوسط.